الأب جورج بريدي
قد نلتقي بأشخاصٍ نحبّهم، نثق بهم، نصدّقهم، ونأخذهم لقلوبنا إخوةً حقيقيين. نحبّ حياتهم أكثر من حياتنا، نخاف عليهم ولا نريد سوى الخير لهم. نعمل كل شيء في سبيل المحبّة من دون أن نفكّر، أو أن نشكّك للحظة. ومن عمق صدقنا، وشدّة محبّتنا، نهرع إليهم عندما نراهم يخسرون حياتهم، وعندما نرى التجربة قد أعمت بصائرهم وأفكارهم لنحاول انتشالهم من فخاخ الشرّ، عسانا نربحهم ويربحون ذواتهم.
نيّتنا ألا يتألّمون، نحن من تألّمنا كثيرًا من أجلهم سابقًا إلا أنّنا نراهم يقلبون العالم فوق رؤوسنا ونصبح فجأةً ألدّ أعدائهم…
خطيئتنا أنّنا أحببنا محبّةً مقدّسة، لا تخلو من الأخطاء، لكنّها صادقة، جعلتنا ننسى ذاتنا، نفرح لفرحهم ونجاحاتهم، ونحزن معهم لثقل الأيّام. خطيئتنا أنّنا ظننّا يومًا أنّ اللّه وضعهم على دربنا، فراهَنّا عليهم، وآمَنّا بهم، وبنينا أحلامًا أنّنا سننشر معًا «المحبّة» في العالم.
خطيئتنا أنّنا صدّقنا كلماتهم وصلواتهم، وأنّهم يعرفون اللّه ويحبّونه، فبحثنا عن نقائص قلوبنا في محبّتنا لهم، وحمّلناهم جراحاتنا من دون خوف لأنّنا لم ندرك يومًا أنّهم سيصلبوننا على صليب المحبّة، ويرحلون…
يتركوننا معلّقين، متألّمين، مرضى، ونحن بحاجةٍ إليهم ليعطونا قطرة ماء، كما كنّا بجانبهم عندما احتاجوا إلى الينابيع، إلا أنّهم رحلوا بعدما أخذوا كل شيء منّا، وتركوا فينا جرحًا أعمق من كل الجراحات الأخرى.
رحلوا عندما خافوا على أنفسهم، عندما أرادوا أن يحموا «الأنا» فيهم من حقيقتنا، عندما خافوا على مستقبلهم، وعندما صدّقوا الكذبة والكذّاب على إيمانهم.
فهل نسامحهم؟
هل يمكننا أن نسامح من انقلبوا على الخير، وحاكموه ظلمًا عند بيلاطس؟ ولكي يُسكِتوا صوت اللّه في ضمائرهم، غسلوا أيديهم من أذيّتهم، فداروا يبرّرون أنفسهم، ويقولون أنّنا نتدخّل في حياتهم، ونريد أن نقرّر مصيرهم، فكان الأجدر بهم سحقَنا تحت قساوة قلوبهم.
بإنسانيّتي وضعفي، لا يمكنني أن أسامحهم لأنّهم لم يعرفوا أن يسامحوا طيبتنا التي قد تكون تهوّرَت، ولكنّها لم تخنهم يومًا، ولم تؤذهم يومًا، ولم تكن قادرة على أذيّتهم، إلا أنّهم تعمّدوا أذيّتنا.
لا يمكنني أن أسامحهم لأنّهم لم يصدّقوا يومًا صِدْقَ محبّتنا، فهم حاولوا أن يحبّونا، لكنّهم فشلوا وفضّلوا حبّ المغريات لأنّهم لا يحبّون أنفسهم. فالمسيح بذاته على الصليب لم يقل: «أنا أسامحهم» بل صرخ إلى الآب: «سامحهم لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون».
سنحمل جراحاتنا مدى الحياة، لا بل حتى إلى السماء… لم يعلموا ماذا فعلوا وقتلوا فينا، إلا أنّ صلاتنا ستكون «سامحهم يا أبتِ» ليس لأنّهم يستحقّون السماح، كلا، فهم لا يستحقّونه، بل لأنّنا لا نريد لقلوبنا أن تُشبه قلوبهم، ولا نريد أن نؤذي كما أذونا، ولا نريد أن نكون كذّابين، متكبّرين، كالكذبة التي يعيشونها، ولا نريد للشرّ أن يربح فينا.
ارحلوا، وليسامحكم اللّه عندما ستمثلون أمامه!