ماري حنّا
المرسل اللبناني الأب جان عقيقي، الفنّان ساري البادية سابقًا، نال شهرة واسعة في التسعينات… ناداه صوت الربّ، فترك الجاه والمال والفنّ والشهرة والأضواء… وهب ممتلكاته وباع مقتنياته، تجرّد عن كل ماديّات الحياة، وانجذب إلى كهنوت المسيح الذي ناداه وتبع ذلك الصوت حتى آخر الطريق…
في لقاء خاصّ عبر “قلم غار”، يرسم لنا الأب عقيقي الخطوط العريضة في مسيرته منذ نعومة أظفاره، مرورًا بتلك المرحلة الذهبيّة من حياته، وصولًا إلى نقطة التحوّل الكبيرة التي دفعت به إلى التخلّي عن كل شيء، واختيار الحياة الكهنوتيّة.
صراعٌ بين الفنّ والكهنوت
“كنت أشعر بدعوتي الكهنوتيّة منذ صغري، لكنني لم أكن متأكدًا منها، وحين أصبحت في عمر المراهقة، دخلت إلى الطالبيّة لاختبارها. لم أستطع مواصلة المسيرة بسبب صغر سنّي، فلم أكن قد بلغت سنّ الرشد بعد، ما لم يخوّلني اتّخاذ القرارات عن وعي ونضوج. لذلك، لم يُسمح لي وقتها بدخول الابتداء”، يخبر الأب عقيقي.
“غادرت الدير 18 سنة قبل عودتي من جديد. في خلال تلك الفترة، بدأت أشقّ طريق مستقبلي المهني والعاطفي، فدخلت مجال الفنّ، وأحييت الحفلات الفنيّة في الدول العربيّة، وعُرفت باسم «ساري البادية» الاسم الفنّي الذي اختاره لي الأديب والصحافي الراحل جورج ابراهيم الخوري.
حقّقت شهرة واسعة في مسيرتي الفنيّة، وأطلقت أغنيات خاصّة نالت انتشارًا كبيرًا، لكنني كنت أشعر دائمًا بأنني لست في مكاني المناسب، وراودتني باستمرار فكرة اختيار الحياة المكرّسة.
إلى جانب الغناء، عملت في مجال تصميم الأزياء، وحقّقت أعمالي نجاحًا كبيرًا. عشت صراعًا داخليًّا صعبًا، فقرار ترك كل شي ودخول الدير لم يكن سهلًا.
فكّرت في تلك الفترة بترك مجال الفنّ، على الرغم من أن العام 1996 شكّل السنة الذهبيّة بالنسبة إليّ إذ لاقيت نجاحات باهرة وشهرة استثنائيّة. وكوني كنت مقبلًا على الزواج، بدأ الصراع بين الارتباط العاطفي أو دخول الدير”.
هكذا اتّخذت قراري…
ويقول الأب عقيقي: “لم تكن حياتي سهلة؛ مررت بصعوبات كثيرة، أقساها وفاة شقيقي وشقيقتي في عزّ صباهما… بعد رحيلهما، فقدت والدي ووالدتي… أربع خسارات قاسية في خلال سنتين! ولّدت هذه الصدمات لديّ نقمة وحزنًا وحالة رفض جعلتني أطرح أسئلة كثيرة، فكيف للربّ أن يسمح بأن يخسر والديّ فلذتيّ كبديهما!؟
أسئلة وجدانيّة إيمانيّة كثيرة كنت أطرحها: هل الله موجود؟ لماذا يسمح الربّ بأن نخسر الناس الذين نحبّهم؟…
من ثمّ، سافرت في رحلة حجّ إلى مديوغوريه حيث غصت في قراءة ذاتيّة لأعرف ماذا يريد الربّ منّي، وأين تكمن السعادة الحقيقيّة؟ على الرغم من امتلاكي الجاه والمال والشهرة، وقدرتي على القيام بالأسفار الكثيرة، لم أكن أجد السعادة الحقيقيّة، وكنت أقول: إن وجدتم طريقها، فأنا مستعد لأن أدفع ثمنها… في مديوغوريه، شعرت بفرح داخلي لا يوصف. عرفت أكثر كيف أصلّي وأتأمّل وأفكّر…
عندما عدت إلى لبنان، أصبحت أكثر التزامًا في الكنيسة؛ أشارك في القداس الإلهي كل يوم، وأعترف بخطاياي باستمرار، وقرّرت أن أصقل ذاتي، فصرت أصوم، وأصلّي، وأقوم يوميًّا بعمل رحمة، لو مهما كان صغيرًا أقدّمه إلى يسوع حتى بدأت أتخلّى عن الأشياء التي كنت متعلّقًا بها من أغراض وملابس ومقتنيات…
بعد صراع طويل مع رغبتي في دخول الدير وحالة الرفض التي كنت أمرّ بها، قرّرت أخيرًا اختبار الحياة الديريّة مرّة جديدة، فتوجّهت ثانية إلى دير كفيفان حيث مكثت حوالى 15 يومًا لكنني لم أجد نفسي هناك إلى أن تعرّفت على المرسل اللبناني الأب معين سابا الذي دعاني إلى اختبار دعوتي في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة لأيّام عدّة كي أتّخذ قراري.
بعد شهر من الاختبار، اتّخذت قراري النهائي بدخول الدير لكن هذا القرار حتّم عليّ فسخ عقد عمل مهمّ مع شركة “روتانا”. كذلك، ألغيت اتفاق مشاركتي في أحد الأفلام المصريّة، وأنهيت كل عقود تصاميم الأزياء التي كنت قد أبرمتها. وزّعت معظم ممتلكاتي، وبعت القسم الآخر، بما فيها سيّاراتي…
في لحظة مغادرتي منزلي قاصدًا الدير، دمعت عيناي، ليس ندمًا على قراري، بل تأثّرًا لأنني أتخلّى عن تعب عمري، وكل ما أسّسته على مدى سنوات من الجهد المتواصل في العمل! تخلّيت عن كل ذكرياتي…
وهكذا دخلت الدير بمعونة الربّ وإرادته، وأنا اليوم كاهن منذ عشر سنوات.
نعم، وجدت الجواب!
ويتابع الأب عقيقي: “بعدما خسرت أمّي ولديها، كنت أتساءل: لمَ يسمح الربّ لأناس يصلّون كثيرًا بأن يتعذّبوا؟ عتبت عليه، وسألته: «إذا إنت بيّ، ليه بتسمح يموتوا أخواتي وأهلي بعمر زغير؟»
نعم، وجدت الجواب! إن الربّ يستعمل ظروفنا حتى نتغيّر… الربّ يسمح بالفقر أو العذاب أو التجربة كي أتغيّر أنا وليس ظروفي… لم يأتِ يسوع ليغيّر الظروف، بل ليغيّر القلوب.
تعلّمت أن للألم بابَيْن؛ إما أن نفتح الباب نحو الله أو أن نقفله. تعلّمت قوّة الصبر، وزيادة الإيمان، والتسليم لمشيئة الربّ. تغيّر مفهومي للموت، وأدركت أننا على الأرض في زيارة عابرة”.
الصوت أداة تبشير
ويضيف الأب عقيقي: “عندما دخلت الدير، قرّرت التوقف عن الغناء والترنيم، لكن مرشدي الأباتي ساسين زيدان (رحمه الله) قال لي: «صوتك وزنة من الوزنات التي وهبك الله إيّاها، ويمكنك من خلالها إيصال رسائل روحيّة أو تسليط الضوء على قضايا اجتماعيّة هادفة… اختر المناسب، واستعمل صوتك أداة تبشير وشهادة للربّ».
أعدتُ النظر في قراري، وعملت بنصيحته، فصرت أختار ما أقدّمه بدقّة على أن تحمل الترانيم والأغنيات رسالة هادفة، وقرّرت أن أضع هذه الوزنة في المكان المناسب… إن الفنّ لا يفقد ماهيّته لكنني أضع موهبتي في إطارها بما يليق بخدمة رسالتي الكهنوتيّة”.
الأبوّة الروحيّة فعلٌ عظيم
ويقول الأب عقيقي: “أؤمن بأن كل إنسان مدعوّ إلى عيش الأبوّة، سواء أكانت أبوّة جسديّة من خلال الزواج أم أبوّة روحيّة من خلال الكهنوت؛ أنا كأب روحي، ينادونني “أبونا جان”؛ إذا لم أجسّد هذا الدور كما يجب، فأنا أعاني من الجفاف الأبوي… عندما أعمّد طفلًا أو أباركه، أو أساند زوجين في تخطّي مشكلة، أو أقف إلى جانب أيّ شخص، أشعر بأنني والدهم جميعًا… لذلك، أجد الأبوّة الروحيّة فعلًا عظيمًا جدًّا”.
“شبّهوني فيك”
ويخبر الأب عقيقي: “قرّرت هذا العام أن أقدّم عملًا جديدًا لعيد الأب، تحت عنوان “شبّهوني فيك”؛ كلمات: بيار برّاك، ألحان: دنيز سعد، توزيع وتسجيل: غابي لطفي. تحيّة إلى روح والدي، وكل الآباء الذي أفنوا عمرهم في التضحية والتعب لأجل أبنائهم. ركّزت في هذه الأغنية على رسالة الأبوّة وضرورة حضوره الفعلي في العائلة، فهو صخرة البيت التي تُبنى عليها العائلة”.
أشكره على نقاط ضعفي وقوّتي
ويرفع الأب عقيقي الشكر إلى الربّ قائلًا: “أحمد الربّ على كل حياتي، ولا أندم على ما مررت به، بل أعتبر أن الله وضع هذه الاختبارات والخبرات في حياتي لأتمكّن من تجنيدها اليوم في خدمة الكنيسة.
أشكره على نقاط ضعفي وقوّتي، على كل دمعة، وكل بسمة، وعلى وجودي في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين، وإذا أردت أن أشكره على كل شيء، لا ينتهي الشكر، فاللائحة تطول”.