د. غسان حنا
القديس شربل مخلوف هو أحد أعظم القديسين في الكنيسة المارونيّة الكاثوليكيّة، ويُعتبر مثالًا حيًّا للتفاني والطاعة والفقر والعفّة والتضحيات. حياته النسكيّة تمثّل نموذجًا يُحتذى به في السعي نحو القداسة والاتحاد بالله. في هذا التأمل الروحي، سنتناول جوانب حياة القديس شربل المختلفة، ونتعرّف على كيفيّة عيشه هذه الفضائل بعمق وإخلاص.
1-الطاعة
- طاعة الله
تمتّع القديس شربل بحسٍّ عميق بالطاعة لله. منذ نعومة أظفاره، أظهر شربل امتثالًا كاملًا لإرادة الله، حيث كان يصلّي ويصوم ويعمل بتفانٍ وإخلاص. طاعته لم تكن مجرّد تنفيذ للأوامر، بل كانت تعبيرًا عن محبّة عميقة لله ورغبة صادقة في تحقيق إرادته.
- طاعة الرؤساء
في دير مار مارون-عنّايا، حيث قضى القديس شربل معظم حياته، أظهر طاعة لامتناهية لرؤسائه. كان يقبل بكل ما يُطلب منه بدون تذمّر، ويعمل بكل جهد في كل مهمّة يكلَّف بها، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. كان يرى في الامتثال لأوامر رؤسائه طاعة لله نفسه.
2-الفقر
- اختيار الفقر
اختار القديس شربل حياة الفقر بملء إرادته، مقتديًا بالمسيح الفقير. كان يرى في الفقر وسيلة للتحرّر من التعلّق بالمادّيات والاقتراب أكثر من الله. عاش حياة بسيطة، مكتفيًا بالقليل، ومعتبرًا أن الغنى الحقيقي يكمن في العلاقة بالله وليس في الممتلكات الدنيويّة.
- الفقر المادّي والروحي
لم يكن فقر القديس شربل مادّيًا فحسب، بل روحيًّا أيضًا. تخلّى عن رغباته الشخصيّة وتعلّقاته الأرضيّة، مكرّسًا كل وقته وجهده لخدمة الله. كان يرى في الفقر الروحي طريقًا للنقاء الداخلي والحرّية الروحيّة.
3-العفّة
- حياة الطهارة
عاش القديس شربل حياة طاهرة منذ شبابه، مكرّسًا جسده ونفسه لله. كان يرى في العفّة وسيلة للتقرّب من الله والنقاء الداخلي. حافظ على عهده بالعفّة بصلابة وإيمان، معتبرًا أن الجسد هو هيكل الروح القدس، فيجب أن يُحْفَظ نقيًّا.
- العفّة في الفكر والقلب
العفّة عند القديس شربل لم تكن مجرّد عفّة جسديّة، بل شملت الفكر والقلب أيضًا. حافظ على نقاء أفكاره ومشاعره، مجاهدًا ضد أيّ تجربة يمكن أن تلوّث قلبه أو تبعده عن الله. كان يعتبر أن العفّة تشمل الطهارة في كل جوانب الحياة، الجسديّة والروحيّة.
4-التضحيات
- التضحيات اليوميّة
كان القديس شربل يقدّم تضحيات يوميّة في سبيل محبّته لله، سواء أكانت التضحيات في العمل الشاق أم الصوم أم الصلاة الطويلة؛ كان يقوم بكل ذلك بروح محبّة وتفانٍ، ويعتبر أن كل تضحية تُقَدَّم لله هي تعبير عن محبّته وإخلاصه.
- التضحية القصوى
التضحية القصوى للقديس شربل تمثّلت في قبوله للألم والمعاناة بروح التسليم لإرادة الله. عندما مرض في أيّامه الأخيرة، تحمّل الألم بصبر وصمت، معتبرًا أن آلامه هي مشاركة في آلام المسيح. لم يكن يسعى لتخفيف الوجع، بل قَبِلَه كجزء من دعوته وتكريس حياته لله.
5-الحياة النسكيّة
- العزلة والتأمّل
عاش القديس شربل حياة النسك في عزلة وتأمّل. اختار الانعزال عن العالم للتركيز الكامل على الله. كان يقضي ساعات طويلة في الصلاة والتأمّل، منعزلًا في قلايته بدير مار مارون-عنّايا. كانت حياته النسكيّة وسيلة لتعميق العلاقة بالله والبحث عن القداسة.
- الصوم والانضباط
كان الصوم جزءًا أساسيًّا من حياة القديس شربل النسكيّة. صام بانتظام ومارس الانضباط الجسدي، معتبرًا أن الصوم يساعد على تطهير النفس وتقريبها من الله. ورأى في الصوم أيضًا وسيلة لتقوية الإرادة والتحرّر من التعلّقات الجسديّة.
- الخدمة والتواضع
على الرغم من حياته النسكيّة والعزلة، لم يتوانَ القديس شربل عن خدمة الآخرين. عمل بكل تواضع في الدير، مساهمًا في الأعمال اليوميّة ومدّ يد العون لإخوته. رأى في الخدمة جزءًا من دعوته النسكيّة، معتبرًا أن الخدمة المتواضعة هي تعبير عن محبّة الله.
حياة القديس شربل مخلوف هي مثال حيّ للطاعة والفقر والعفّة والتضحية والنسك. من خلال التزامه العميق بإرادة الله وتكريسه الكامل له، أصبح رمزًا للقداسة والإيمان العميق. يُعْتَبَرُ القديس شربل نموذجًا يُحتذى به لكل من يسعى للعيش بحسب إرادة الله وتحقيق القداسة. لنستمد منه الإلهام والقوّة كي نتبع خطاه ونعيش حياة مفعمة بمحبّة الله وخدمة الآخرين.