غيتا مارون
عندما تقرع باب بيتها، يستقبلك وجهها المشعّ بالمحبّة والحنان، وتغمرك رائحة البخور العابقة في مكان احتضن كنوز الزمن الجميل.
هي المتربّعة على عرش التمثيل والإذاعة والدبلجة حتى أصبحت حجر زاوية للفنّ اللبناني، رافعةً إيّاه نحو العلى لأنه اكتسب بصوتها وأدائها وأدوارها رونقًا أبديًّا واغتنى ببصمة فريدة لا تُمحى.
مدرسة في الإبداع، أيقونة الدراما والأمومة، ملكة الدبلجة، وسواها من الألقاب لا تهمّها لأنها اختبرت أن الغنى الحقيقي ينبع من الحبّ الإلهي المتدفّق في كيان الإنسان.
لمعت في أدوارها المتنوّعة من سنّ السادسة عشرة حتى الثانية والثمانين، فكانت طيّبة وشريرة، مظلومة وظالمة، ثريّة وفقيرة، مستبدّة ومقهورة، بورجوازيّة وخادمة، صامتة وثرثارة، جميلة ومشوّهة.
تاريخها الذهبي حافلٌ بالمسلسلات والأفلام والحلقات التلفزيونيّة والإذاعيّة، بدءًا بـ«أجمل ليالي شهرزاد» وصولًا إلى «السرّ والقدر»، ونذكر منها: «مع الناس»، «السراب»، «أبو فراس الحمداني»، «على طريق الشمس»، «فارس ونجود»، «رحلت ذات صباح»، «سقوط زهرة البيلسان»، «العمياء»، «الكسيحة»، «نساء في العاصفة»، «طالبين القرب»، «بربر آغا»، «زرقاء اليمامة»، «ابنتي»، «خطايا صغيرة»، «الينابيع»، «السرّ»، «غدًا يومٌ آخر»، «بنت البوّاب»، «سكرتيرة بابا»، «المجنونة»، «للحبّ وجهٌ آخر»، «ثورة الفلاحين»، «متل القمر»، «أمّ البنات».
لها حصّة كبيرة في عالم الصغار إذ شاركت في دبلجة الرسوم المتحرّكة، منها: «زينة ونحّول»، «ساندي»، «نينجا المغامر»، «أبطال الجزيرة»، «سندباد»، «سانشيرو»، «النسر الذهبي»، وهذا غيض من فيض.
إنها الفنّانة القديرة وفاء طربيه التي تنير «قلم غار» بحضورها الراقي والمحبّب وتخبره عن مسيرتها المتلألئة بتجلّيات حضور الله وبركات مريم العذراء والقديسين.
-في سنّ مبكرة، جذبتكِ الحياة الرهبانيّة. أخبرينا عمّا حصل لدى لقائك الأمّ الرئيسة في جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة-عبرين؟
-الله يهب الإنسان وزنات، ويدعوه إلى العمل بمحبّة وإخلاص وإنسانيّة وتواضع، وتأدية واجباته على أكمل وجه.
في البداية، رغبت في أن أصبح راهبة لأنني أحببت نمط حياة الراهبات. أعربت عن رغبتي للأمّ الرئيسة آنذاك، عندما التقيتها برفقة والدتي، ولم يكن عمري يتخطّى الثانية عشرة، فقالت لي: «ما زلتِ صغيرة جدًّا. أنتِ أحببتِ أجواء الراهبات، وجذبك القيام بدور ملاك في مسيرة القربان المقدّس ونثر الزهور. الآن، أكملي دراستك وعندما تصبحين في الثامنة عشرة، إذا كانت دعوتك الحياة المكرّسة، أهلًا وسهلًا بكِ!». وأضافت الأمّ الرئيسة: «يمكنك أن تتخصّصي أو تعملي بمحبّة وإنسانيّة وضمير، وأن تكوني مهمّة جدًّا في نظر الربّ، وأن تخدمي مجتمعك أكثر من كونك راهبة في الدير، تصلّين وتصومين وتعلّمين. ويمكنك تحقيق أهدافك ورسالتك، والربّ سيكافئك. وقد تتزوّجين وتؤسّسين عائلة صالحة. انطلقي! لديكِ هذه الخيارات!»…
منذ ذلك الحين، وضعتُ مقصدًا مهمًّا نصبَ عينيَّ، وهو العمل بمحبّة وإنسانيّة، مهما كان نوع عملي، شرط أن يوصل رسالة جيّدة. وهذا ما حصل فعلًا.
-كيف تجلّى حضور الربّ في مسيرة حياتك الغنيّة والمكلّلة بالإبداع؟
منذ نعومة أظفاري، نشأت في كنف أسرة تقيّة ومعطاءة وملتزمة في حقل الربّ.
تعلّمت منها أنّ لكل إنسان دورًا كبيرًا وآخرَ صغيرًا يجب أن يؤدّيهما في الحياة، وليس هناك ممثّل كبير أو صغير.
فعلًا، مثّلتُ مشاهدَ لا تتخطّى صفحةً واحدة، لكنها تركت أثرًا مهمًّا في قلوب المشاهدين.
يجب أن يقتنع الممثّل بالدور ليؤدّيه بصدق، وأن يلوّن أدواره. أنا أقارب كل شخصيّة، وأحاول أن أخلق جديدًا لها؛ إذا كانت مظلومة، أجعل المُشاهِد يعاين مصير الخير والشرّ ليختار طريقه. أمّا إذا كانت كريهة، فأُقْنِعُ المُشاهِد وأجعله يكرهني ويطلق الشتائم عليَّ.
لعبت كل الأدوار: من العمياء إلى الخرساء… الحمد لله، ما زلت أنجح في أداء مختلف الأدوار التي تلقى استحسان الجمهور.
-كيف تتخطّين الصعوبات بنعمة الربّ؟
أنقذني الربّ مرات كثيرة، أذكر منها حادث السير الذي تعرّضت له في اليونان في خلال مشاركتي في أحد المسلسلات منذ 40 عامًا. صدمتني سيّارة ورمتني 6 أمتار في الجوّ. لم أشعر إلا بأنني أطير وصرخت: يا عدرا!… صرختي أنقذت الفنّانَيْن الكبيرَيْن عبد المجيد مجذوب ومارسيل مارينا اللذَيْن رافقاني حينها.
بعد مرور 4 أيّام، تابعت العمل في مسلسل «لارا والبحر» (12 حلقة)، كنت ألعب دور رئيسة عصابة. العناية الإلهيّة رافقتني. لم أكن قادرة على القيام بأيّ شيء.
دخلت غرفتي، وناجيت القديسة ريتا، قائلة: «أنتِ شفيعة الأمور المستحيلة. أطلب منك أن تتشفّعي من أجلي كي أستطيع التركيز على حفظ دوري وأتقوّى وأقف من جديد».
تدخّلت القديسة ريتا، وأكمل مار شربل في ما بعد. ما حصل معي من معجزات لم يحدث مع أحد.
تحدّيت حالتي الصحّية الدقيقة، ونجحت في أداء دوري بإتقان. في وقت التصوير، كنت أقوم وأجلس وأمشي وأصعد الدرج بشكل طبيعي…
في مسرحيّة «الباب» (مدّتها ساعتان)، قمت بالحركات اللازمة للدور، على الرغم من عدم قدرتي على الصعود والنزول. في تلك الفترة، تجلّت قدرة الربّ في هذَيْن العملَيْن. أؤكد أن العناية الإلهيّة هي التي كانت تعمل في حياتي، وليس أنا.
-قلتِ: «القديسة ريتا تدخّلت، ومار شربل أكمل». ماذا حدث؟
بعد 18 عامًا، أكمل مار شربل ما بدأته القديسة ريتا.
في 21 آذار من كل عام (المصادف عيد الأمّهات وتاريخ وقوع الحادث الذي تعرّضت له في اليونان)، أقصد ضريح القديس شربل.
في إحدى المرات، توجّهت إلى عنّايا برفقة صديقتي نعيمة في 22 آذار. كان الثلج يتساقط والمطر ينهمر. شاركنا في المسيرة، وحملت صورة مريم العذراء، ومشيت في المقدّمة.
من ثم، شاركنا في القداس الإلهي. لدى تلاوة الكلام الجوهري، كنت أحاور الربّ وأصلّي. بعدئذٍ، شعرت كأنّ الدم سُحِبَ بسرعة فائقة من رجلي حتى صدري. لم أعد قادرة على التنفس. تجمّدت في مكاني.
قلت للربّ: «إذا كانت مشيئتك تتمثّل في أن أجيء إلى هنا لتستعيد أمانتك لدى تلاوة الكلام الجوهري، لتكتمل إرادتك!».
في لحظة واحدة، عاد الدم يسري في عروقي بشكل طبيعي. لملمت أنفاسي المبعثرة، ورفعت الشكر لله.
بعدئذٍ، تناولنا، أنا ونعيمة، القربان المقدّس. حدّقت في صورة مار شربل، وشكرته من أعماق قلبي…
عشيّة ذلك اليوم، قلت للقديس شربل: «أنا سأقصدك غدًا. لم يعد لديَّ مالٌ كافٍ لمتابعة العلاج».
نعم، لقد أكمل القديس شربل ما بدأته القديسة ريتا، وخلّصني من مُصابي.
-تحملين دومًا المسبحة الورديّة وتصلّينها وتضعينها على صدرك، كيف تصفين علاقتك بها؟ ماذا تطلبين من مريم العذراء عند تلاوة السلام الملائكي؟
أصلّي كل المسابح: المسبحة الورديّة، الرحمة الإلهيّة، يسوع الرحوم…
أطلب من مريم السلام. هي أمّ الجميع.
وأتوجّه إلى يسوع بالقول: «لقد جئتَ إلى العالم، وأتممتَ المصالحة بين الأرض والسماء… أرجوك، اصفع هذا الشيطان الذي يعمل بكل قواه ليهدّم أرضنا. أوقف الحروب وصراعات الدول الكبرى…».
لذلك، رسالتنا دقيقة ومهمّة وبسيطة.
-ما رسالتنا كمؤمنين؟
رسالتنا تكمن في الذهاب إلى حضرة الله، ومعاينة النور، وليس الظلمة. نحن أبناء الله. هو يحبّنا ويهبنا نعمًا غزيرة.
يجب على الإنسان أن يعيش إنسانيّته لأنه خُلِقَ على صورة الله ومثاله.
-الفنّانة القديرة وفاء طربيه من الرعيل الأوّل في الإذاعة وحجر زاوية في عالم التمثيل، كيف تختصرين هذه الحقبة الذهبيّة؟
لا أستطيع اختصار هذه المراحل التي مرّت بشكلٍ متوازٍ. ما يحيّر تمكُّن الإنسان من إنجاز 4 أو 5 مهمّات في يوم واحد بإتقان.
منذ البداية، نجحتُ في تحمُّل المسؤوليّة التي أُلقيت على عاتقي، وربحتُ التحدّي بإتمام مهمّاتي بشكل جيّد.
كانت الأعمال مرتبطة ببعضها. بدأت في الإذاعة اللبنانيّة؛ انطلقنا من لا شيء، ووصلنا إلى المبنى الجديد للإذاعة في الصنائع.
حينذاك، كنت الصوت النسائي المطلّ عبر المذياع، واهتممت بالأخبار «جورنال بارليه» يوميًّا ما عدا الأحد، ومواجز المغتربين.
كما شاركت في كل البرامج الإذاعيّة (الأطفال، التربية…)، وسواها.
كنت أنتقل من ستوديو إلى آخر، أسجّل برامجَ إذاعيّة (مئات الحلقات بالفصحى والعامية)، وحصدت جوائزَ عدّة.
من ثم، جئت إلى إذاعة صوت لبنان، وتطوّعت فيها 20/24 ساعة يوميًّا، دفاعًا عن القضيّة اللبنانيّة. أنجزنا الكثير من لا شيء. كنت أداوم على العمل من الفجر، وأشارك في إذاعة الأخبار والبث المباشر حتى ختام اليوم.
كذلك، في جعبتي المئات من البرامج والمسلسلات التلفزيونيّة، منها التاريخيّة؛ بدايةً، لعبت دور شهرزاد في مسلسل «أجمل ليالي شهرزاد» في تلفزيون لبنان.
اهتممت بالأزياء وتفاصيل الدور، وفاجأت الفريق الفرنسي الذي أراد أخذ نموذج عن شهرزاد باستعدادي وحفظي دوري منذ اللقاء الأوّل لانتقاء الممثّلة المناسبة له، فوقع الاختيار عليَّ. اعتقد الفريق أننا سنقوم بمجرّد اختبار لكننا سجّلنا نصف الحلقة في اليوم الأوّل، وأكملناها النصف الثاني في اليوم التالي لأنني حفظت دوري وأدّيته بإتقان.
أنجزت 104 حلقات من «أجمل ليالي شهرزاد».
منذ ذلك الحين، تعهّدت بأن أكون مع المظلوم ضد الظالم.
كذلك، كنت «عفريتة هانم» في وقت التصوير؛ أقوم بكل الحركات المطلوبة للدور.
كما أنني شاركت بأعمال رائعة في كل الدول العربيّة، ونلت جوائزَ كثيرة. الشكر للربّ على كل شيء.
-الفنّ يحمل رسالة جميلة وراقية للمجتمع. هل ينجح الفنّ اللبناني في حمل رسالته بأمانة؟
هناك أعمال كثيرة تحمل رسالة. قد لا يكون الإنتاج ضخمًا ومبهرًا لكنه يتضمّن رسالة معيّنة.
بالنسبة إليَّ، كل الأدوار التي أدّيتها تحمل رسالة؛ شريرة ليرى المشاهد مصير الأشرار، وخيّرة ليعرف أن المحبّة والطيبة والإنسانيّة هي القيم التي يقدّرها ربّنا.
-ما رأيك بالأعمال المشتركة؟
تحقّق الأعمال المشتركة انتشارًا كبيرًا، وتشمل أمورًا مهمّة. وأنا لعبت أدوارًا عدّة في أعمال مشتركة كثيرة.
-أيّ دور من أدوارك هو الأحبّ إلى قلبك؟
لا تفضيل بين الأدوار. يستطيع الممثّل أن يوصل من كل دور فكرة معيّنة. وهو يفرح عندما يعرب له جمهوره عن محبّته وتقديره ويسأله عن كيفيّة أداء دوره. حينئذٍ، يتيقّن أن رسالته قد وصلت.
ويجب على الممثّل أن لا يعتبر نفسه نجم النجوم وأيقونة الفنّ، بل أن يركّز على إيصال الدور بأمانة، مهما كان حجمه في الدراما…
-برزتِ في دور الأمّ وأعطيته من قلبك، ماذا أعطاكِ وماذا أضفتِ إليه؟
أعطاني الأمومة الصادقة التي لم أميّز فيها بين شخص وآخر، فإنني أشعر بأن جميع الممثّلين أولادي وأحفادي. عندما يخطئون، أتحدّث إليهم بلباقة كأنني أكلّم حفيدتي أو حفيدي.
دور الأمّ أضاف إليَّ هذا الكمّ من المحبّة لأن الوالدة تختصر الكون. الأمومة رسالة مهمّة وأساسيّة وصعبة.
-الفنّانة القديرة وفاء طربيه أمّ وليد، كيف صقلت الأمومة الفعليّة دور الأمّ في التمثيل؟ بمَ ألهمكِ وليد لتضيفيه على الأدوار؟
حبيبي وليد أعطاني الشفافية. تربيته سليمة وصالحة، وهو رجل رائع مع عائلته. له ولدان: أنطوان وأندريا، وزوجته جوسلين امرأة طيّبة وخلوقة ومتخصّصة في اللاهوت وملتزمة في الكنيسة.
بقدر ما تخاف الأمّ على ولدها، تقلق أيضًا على جميع أولاد الناس.
تغرورق عينا الفنّانة القديرة وفاء طربيه بالدموع، وتتابع:
مَن شاركتُ معه دور الأمومة وأحزنني رحيله هو الممثّل فادي إبراهيم إذ جمعنا مسلسل «السرّ والقدر».
شكرت الله على تعزيةٍ منحني إيّاها عندما رحلت والدته قبل أن تعرف بمرضه وموته، ما جنّبها آلامًا جمّة. ماتت معه لتقوم معه. الآن، هي تحتضنه، وهما الاثنان في أحضان يسوع ومريم.
-بين التمثيل والعمل الإذاعي، أيّ من المجالَيْن يخوّل المرء إيصال رسالته بقوّة؟
الصورة لها قيمة كبيرة لكنها تخذل أحيانًا. قد يشعر المشاهد بأن بعض الممثّلين يحفظ دوره ويستظهره من دون إجادة الأداء. بينما في الإذاعة، يُبْذَلُ مجهودٌ مضاعف لإيصال الصوت بمصداقيّة.
في الدبلجة، نلت جائزة «ملكة الدبلاج في الكرتون»، وكرّمتني السعوديّة في الكويت في خلال مهرجان امتدّ على مدى 5 أيّام.
قدّرت التربية السليمة للمشاهدين الأطفال لأنهم أخذوا العبر من أدوار الشخصيّات الكرتونيّة.
الربّ أغدق علينا عطاياه الكثيرة، ونحن نعلم كيف نستثمر الوزنات وفق إرادته وبرعايته.
-في النهاية، علامَ تشكرين الربّ؟
أشكر الله على كل شيء. نحن نضيّع البوصلة أحيانًا. الربّ لا يضرب، بل يحتضن أبناءه وينقذهم من السقوط.
كل صباح، أحمده على اليوم الجديد الذي منحني إيّاه، وأخاطبه قائلة: «اجعلني أعمل بحسب مشيئتك. صحّح مساري إذا لم تتوافق خطواتي مع إرادتك. رافقني في عملي ولا تتركني!».