غيتا مارون
عند التعمّق في حياة القديسة تريزيا الطفل يسوع والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، يبدو للوهلة الأولى أنّ الربط بينهما قد يكون مستغربًا. تريزيا، القديسة الكاثوليكيّة المولودة في فرنسا في القرن التاسع عشر، كرّست حياتها لحبّ الله وخدمة الآخرين عبر «الطريق الصغير» القائم على الثقة المطلقة بالله والاعتماد الكامل عليه في كل شيء. أمّا عبد الحليم حافظ، فهو الفنّان المصري الكبير المولود في منتصف القرن العشرين، وقد أثرى العالم العربي بصوته وأغانيه العاطفيّة والوطنيّة. ومع ذلك، جمعتهما علاقة روحيّة وإنسانيّة فريدة ولمسة شفاء.
القديسة تريزيا «الزهرة الصغيرة»
القديسة تريزيا الطفل يسوع أو «الزهرة الصغيرة» تمثّل نموذجًا نقيًّا للحبّ الإلهي والتفاني في خدمة الآخرين. كانت حياتها قصيرة إذ انتقلت إلى الحياة الأبديّة عن عمر يناهز 24 عامًا، لكنها من خلال «الطريق الصغير»، علمت أنّ الإيمان لا يتطلّب أعمالًا عظيمة، بل يمكن التعبير عنه من خلال الأعمال اليوميّة البسيطة. آمنت بأنّ المحبّة الصادقة تقرّبنا من الربّ، وأنّ الأعمال الصغيرة المليئة بالحبّ يمكن أن تكون عظيمة في نظر الله.
عبد الحليم حافظ ولغة الفنّ
في الجانب الآخر من العالم، وفي زمن مختلف، برز عبد الحليم حافظ كأحد أعظم المطربين في تاريخ الفنّ العربي. حمل صوت عبد الحليم مشاعر الحبّ والشوق والألم بطريقة لمست قلوب الملايين، فكان أيقونة ثقافيّة وشعبيّة، وتربّع على عرش قلوب محبّيه حتى بعد وفاته عام 1977. لكن عبد الحليم لم يكن مجرّد مطرب عاطفي، بل كان إنسانًا مؤمنًا بالتسامح الديني والقيم الإنسانيّة المشتركة. ضجّت حياته بالتجارب التي تعكس تداخُل الثقافات والأديان، وتبرز إيمانه بأنّ الفنّ هو لغة تجمع بين الناس على اختلاف معتقداتهم.
القديسة تريزيا تبارك عبد الحليم حافظ
في منتصف الخمسينيّات، بينما كان عبد الحليم في ذروة نجاحه الفنّي، تعرّض لأزمة صحّية خطرة كادت أن تنهي حياته المهنيّة. في خلال تلك الفترة، سافر إلى إنكلترا لتلقّي العلاج، وعاش حينذاك لحظات من اليأس والألم.
يروي عبد الحليم أنّه رأى في أحد الأيّام، حين كان موجودًا في لندن، حلمًا غريبًا لكنه زرع الراحة في نفسه، وظهرت فيه سيّدة تخبره بأنّه سيتعافى من مرضه. عندما سألها عن اسمها، قالت له: «تريز». في اليوم التالي، تفاجأ عبد الحليم بتشخيص الأطبّاء لحالته وإخباره بأنّه قد شُفِيَ تمامًا، ويمكنه العودة إلى القاهرة. تلك الحادثة تركت أثرًا عميقًا في نفسه، ولا سيّما عندما علم بمكانة القديسة تريزيا الطفل يسوع في نفوس الكثيرين، سواء أكانوا من المسيحيين أم المسلمين في مصر.
زيارة الكنيسة في شبرا… تقدير وامتنان
بعد عودته إلى القاهرة، شعر عبد الحليم بامتنان عميق لهذه القديسة التي ظهرت له في المنام. قرّر زيارة كنيسة القديسة تريزيا في حيّ شبرا بالقاهرة للتعبير عن شكره لها. وضع العندليب الأسمر لوحة باسمه في الكنيسة تعبيرًا عن امتنانه. لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد أصبح عبد الحليم يتردّد إلى الكنيسة كلما أُتيحت له الفرصة، وظلّ يتحدّث عن كرامات القديسة تريزيا بإيمانٍ عميق.
في إحدى الزيارات، علم عبد الحليم بأنّ جدار الكنيسة قد تهدّم. لم يتردّد في تحمّل نفقات إعادة بناء الجدار، بل كان ذلك جزءًا من استمراريّة علاقته الروحيّة بالقديسة تريزيا. هذه اللفتة الإنسانيّة لم تكن مجرّد تصرُّف عابر، بل كانت تعبيرًا عن إيمان عبد الحليم العميق بالتسامح الديني وأهمّية الحبّ والتقدير المتبادَل بين الأديان.
الفنّ جسر بين الأديان
إنّ علاقة عبد الحليم حافظ بالديانة المسيحيّة لم تقتصر على القديسة تريزيا فحسب، فقد أظهر العندليب الأسمر التزامًا بتشجيع التعايش الديني من خلال أعماله الفنّية؛ شركة «صوت الفنّ» -التي كان يملكها بالشراكة مع الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب- أنتجت فيلم «الراهبة»، من بطولة هند رستم عام 1965. تناول الفيلم شؤونًا دينيّة واجتماعيّة حسّاسة، وكان لعبد الحليم تأثير كبير في تشجيع هند رستم على قبول دورها، ما عكس إيمانه بأنّ الفنّ يمكن أن يكون وسيلة للتواصل الروحي بين الناس.
كما قدّم العندليب الأسمر أغنية «المسيح» في قاعة ألبرت هول بلندن عام 1968، وهي أغنية تحمل دلالات دينيّة ووطنيّة. استلهمت الأغنية قصّة المسيح ومعاناته وربطتها بمأساة الشعب الفلسطيني. على الرغم من الصعوبات والتهديدات التي واجهها بسبب هذه الأغنية، أصرّ عبد الحليم على تقديمها، مؤكدًا إيمانه برسالتها الإنسانيّة.
التسامح الديني في حياة عبد الحليم
عبد الحليم حافظ لم يكن فنّانًا كبيرًا فحسب، بل كان أيضًا إنسانًا يتمتّع بروح التسامح والتفاهم بين الأديان. كان له الكثير من الأصدقاء الأقباط الذين أثّروا في حياته وشكّلوا جزءًا من تجربته الإنسانيّة. في مسقط رأسه بالزقازيق، وكذلك في معهد الموسيقى المسرحيّة، تعرّف عبد الحليم على طقوس المسيحيين وشاركهم مناسباتهم، معبّرًا عن احترامه وتقديره لتقاليدهم الدينيّة.
بعد وفاته، اكتشفت أسرته دبّوسًا يحمل صورة مريم العذراء مخبّأً خلف ياقة إحدى بذلاته. كانت سيّدة لبنانيّة قد أهدته هذا الدبوس ليلة أنشد فيها أغنية «المسيح» في لندن. احتفاظ عبد الحليم بهذا الدبوس حتى وفاته يعكس تقديره للسيّدة العذراء وإيمانه بالقيم المشتركة بين الأديان.
إرث التسامح والمحبّة
في نهاية المطاف، يمكن القول إنّ العلاقة بين القديسة تريزيا الطفل يسوع والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ هي قصّة تجمع بين الروحانيّة والفنّ. هذه العلاقة تشكّل رمزًا للتسامح الديني والتعايش بين الأديان، وتذكّرنا بأهمّية الحبّ كقيمة إنسانيّة عالميّة تتجاوز كل الفروقات الدينيّة والثقافيّة.
عبد الحليم حافظ، بصوته العذب وروحه الإنسانيّة، ترك إرثًا عظيمًا يعبّر عن تلك القيم التي آمن بها وتجلّت في أعماله الفنّية وانفتاحه على الدين المسيحي. هذا الإرث يظل نابضًا في قلوب الملايين، ويذكّرنا دائمًا بأن الفنّ يمكن أن يكون جسرًا يصل بين القلوب مهما كانت المسافات.
القديسة تريزيا وعندليب الشرق كلاهما يرمزان إلى الحبّ الحقيقي الصادق؛ حبٌّ يتجاوز الزمان والمكان، حبٌّ يُلهم الأجيال ويرتقي بالروح البشريّة. كان حبّ تريزيا لله نقيًّا وبسيطًا، مثل زهرة صغيرة تنمو في حديقة الإيمان، بينما كان صوت عبد الحليم بمثابة تغريد طائر في سماء الحبّ والأمل.
كلاهما يقدّمان لنا درسًا مهمًّا مفاده أنّ الحبّ هو جوهر الحياة، سواء أكان لله أم للناس أم للفنّ. الحبّ هو يمنح الحياة معنى، ويربط بين القلوب، على الرغم من اختلاف الأزمان والأماكن.