لارا المغاريقي
في حياة الإنسان، ثمّة محطات تترك أثرًا عميقًا في روحه، ولحظات مشبعة بالألم والتحدّي تتحوّل إلى رسالة تحمل في طيّاتها قوّة الإيمان والصمود.
هاني نصّار، مؤسّس جمعيّة «برباره نصّار لدعم مرضى السرطان» ورئيسها، رجل واجه أصعب التجارب بفقدان زوجته برباره، لكنه لم يسمح للألم بأن يكون نهاية الرحلة، بل جعله بدايةً لمسيرة عنوانها العطاء والمساندة.
في هذه الشهادة الملهمة عبر «قلم غار»، نغوص في تفاصيل رحلته، واختباره حضور الله في حياته، وتحويله المأساة إلى رسالة دعم لمرضى السرطان من خلال الجمعيّة التي أسّستها برباره قبل رحيلها. إنّها تجربة إنسانيّة مؤثرة، تعبّر عن قوّة الإيمان والتفاني في خدمة الآخرين.
–كيف تشعر بحضور الله في حياتك اليوميّة؟
أشعر بحضور الله في حياتي من خلال الأشخاص الذين ألتقي بهم، تمامًا كما قال القديس بولس الرسول: «لستُ أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية 2: 20). فالله يستخدمنا ليُظهر ذاته للآخرين من خلال مسيرة حياتنا. وألمس هذا الحضور يوميًّا، بخاصة في الجمعيّة، حيث أرى عمله في كل التفاصيل.
-في فترة فقدانك زوجتك، كيف لمستَ حضور الله في مساعدتك على تجاوز الحزن؟ وكيف أعانك الإيمان في تلك الأوقات الصعبة؟
منذ البداية، تعاملت مع هذا الألم كرسالة حملتها بإيمان. لم أكن أبحث عن معجزة أو شفاء، على الرغم من أنّني في مرحلة معيّنة تمنّيت ذلك. لكن مع مرور الوقت، وبعد تقبّلنا مرض برباره والمحنة التي عشناها، تغيّرت نظرتي للأمر. لم أعد أترقّب شفاءها بشفاعة القديسين، بل رأيتها قديسةً في معاناتها. وعوضًا عن الشفاء الجسدي، اختبرنا شفاءً روحيًّا أعمق.
ما زالت ترنّ في أذني عبارة سمعتها عند مرض برباره: «هذا المرض سيُظهِر مجد الله». عندها، أدركت أنّ السرطان رسالة علينا أن نعيشها بقوّة الله، لا بقوّتنا. حتى أنّني شعرتُ كأنّني نلت الشفاء…
أمّا انتقالها إلى الحياة الأبديّة، فكان تتويجًا لهذه الرحلة الإيمانيّة. لم يكن رحيلها صدمة، بل شعرت بفخرٍ عميق. عند جنازتها، لم يكن الناس يأتون لمواساتنا، بل كنا نحن من نواسيهم لأنّنا اختبرنا سلامًا يفوق كل تصوُّر. كان السلام والطمأنينة يحيطان بي وبأولادي، كأنّ كلّ شيءٍ قد تمّ ولم ننكسر! عندما نعيش الألم بإيمان، لا ننتظر أن يمنحنا الله القوّة لأنّنا نصبح متجذّرين في هذه الحقيقة، حتى تتحوّل إلى جزءٍ طبيعي من حياتنا اليوميّة.
-هل تغيّرت نظرتك للحياة بعد هذه التجربة؟ وكيف أثّر ذلك على تطوّرك الشخصي والروحي؟
لم أكن يومًا شخصًا سطحي التفكير، وإن كنت عميقًا في الماضي، فقد زادني الألم عمقًا. فالمعاناة تصقل الإنسان، وتُخرج منه بعدًا روحيًّا أعمق، بحيث لا يعود ينشغل بقشور الحياة. يصبح التركيز على الجانب الإيجابي في كل ما نمرّ به، ونتعلّم أن نراقب الأمور من دون السعي الدائم لتحليلها لأنّ هناك الكثير من الأحداث في الحياة التي لن نجد لها إجابات مباشرة. وعندما نتوقّف عن فلسفة الأمور، نكتشف أنّ الأمر بحدّ ذاته راحة، إذ إنّ الإجابات تتجلّى لنا مع مرور الوقت.
نظرتي للحياة اليوم تغيّرت، إذ أراها مرحلةً جميلةً علينا أن نمرّ بها، لكن ما ينتظرنا بعدها أعظم وأجمل.
هذا التحوّل لم يأتِ فجأة، بل مررت بمراحل عدّة صقلتني. منذ دخولي الدير في سنّ الثانية عشرة، عشت الحياة الروحيّة التقليديّة. ثم انغمست في أحداث الحرب التي شكّلتني أكثر من أيّ موعظة. بعدها، اختبرت الحياة النسكيّة لمدّة عام في دير القيامة-شبروح، حيث اقتربت أكثر من العمق الروحي. عند عودتي إلى الإكليريكيّة، أدركت التناقض الكبير الذي يعيشه مجتمعنا اليوم، حيث يسود المجد الباطل.
بعدئذٍ، قلت: «كيف سأعظ الناس، وأنا لا أعيش بينهم؟». حينها، أدركت أنّ طريقي لم يكن هناك، وأنّ دعوتي تكمن في مكانٍ آخر.
–زوجتك أسّست جمعيّةً لدعم مرضى السرطان قبل وفاتها. كيف وُلِدَت هذه الجمعيّة، وما دافع تأسيسها؟
في خلال خمس سنوات من العلاج، قضينا الكثير من الوقت في الطابق المخصّص لمرضى السرطان الذين بلغوا مراحلَ متقدّمة. هناك، لاحظنا أنّ بعضهم لم يفقد الأمل في الشفاء، لكن هؤلاء خسروا حياتهم لأنّهم لم يستطيعوا تحمُّل تكاليف العلاج. وكان تقصير الدولة في هذا المجال واضحًا جدًّا.
في الوقت نفسه، كنا نرى كيف يتمّ حشد الدعم الكبير لمرضى السرطان من الأطفال، بينما كان البالغون يُهمَلون، وأحيانًا بشكلٍ متعمّد. بلغ بنا الغضب أشدّه عندما سمعنا مقابلةً إذاعيّةً مع طبيبة قالت فيها حرفيًّا: «لماذا ندعم مرضى السرطان البالغين؟ كم سيعيشون؟ سنتين… ثلاث سنوات؟ من الأفضل دعم الأطفال، فأمامهم سنوات طويلة».
عند سماع هذا الكلام، انتفضنا، أنا وبرباره، فقد كانت حينها في بداية الأربعينات من عمرها. لكن حتى لو بقي للإنسان يوم واحد، فمن حقّه أن يعيشه بكرامة.
عندها، أصررنا على تأسيس جمعيّة لأنّنا أدركنا أنّ لا أحد كان يهتمّ بمرضى السرطان البالغين، أي من هم فوق سنّ الثامنة عشرة. هكذا، بدأ مشوار تأسيس الجمعيّة لتكون صوتًا لمن لا صوت لهم، وتوفّر لهم الدعم الذي يستحقّونه.
–هل وجدت أنّ هذا العمل يخفّف من ألم فقدان زوجتك؟
بالطبع، فإنّنا نشعر بالعزاء الحقيقي عندما نرى أكثر من سبعة آلاف مريض يشكروننا على الدعم الذي يتلقّونه من خلال الجمعيّة. هذا العمل لا يترك لي وقتًا للتفكير بأنّها رحلت لأنّ حضورها مستمرّ في كل ما نقدّمه للمرضى.
على الصعيد الشخصي، في البداية، كنت عندما أعود إلى المنزل، أحسّ بغيابها وأفتقدها. لكن مع مرور الوقت، أدركت أنّ أولادي هم الأكثر تأثرًا بفقدانها، فتوجّه تفكيري بالكامل نحوهم، ولم أعد أفكّر بما ينقصني، بل كيف يمكنني أن أملأ الفراغ في حياتهم. حاولت، قدر المستطاع، أن ألعب دور الأب والأمّ معًا، بخاصة في الفترة الأولى بعد رحيلها.
ابني الذي كان يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا حينها رفض تمامًا أن نستقدم امرأة لمساعدتنا في المنزل. فقد كان يرفض وضع «صحن رابع» على الطاولة غير صحن أمّه. كانت تلك اللحظة مؤثرة جدًّا، وأظهرت مدى تعلّقه بها.
نقطة ضعفي تتمثّل في أولادي، فهم أولويّتي المطلقة. لا أفكّر في نفسي أو في احتياجاتي بقدر ما أفكّر فيهم، وفي عمل الجمعيّة الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من رسالتي في الحياة.
-ما أبرز التحدّيات التي واجهتها في أثناء مواصلة المسيرة في تأسيس الجمعيّة؟
كان التحدّي الأوّل هو تأسيس الجمعيّة بحدّ ذاته. منذ البداية، واجهنا نظرة الشك والاتهامات التي طالتنا، حيث ظنّ البعض أنّنا مثل غيرنا من الجمعيّات التي تسعى إلى الربح المادي، على الرغم من أنّ هذا التعميم لم يكن منصفًا. كان علينا إثبات مصداقيّتنا حتى قبل أن نبدأ، وهذا ما جعل الأمور أكثر صعوبة. حتى الحصول على موعد للحديث عن نشاط معيّن أو لجمع التبرّعات لم يكن أمرًا سهلًا.
لكن الأمور بدأت تتغيّر عندما بدأ الناس يسمعون قصّة برباره، وكيف قرّرنا، مع الأولاد، القيام برحلة «العلم اللبناني» في مختلف المناطق اللبنانيّة. كان الهدف من هذه الرحلة تشجيع المرضى الذين يمرّون بظروف مشابهة، ودعمهم بالأمل والقوّة لمواجهة مرضهم. أطلقنا على الجمعيّة اسم «برباره نصّار» تخليدًا لاسم زوجتي وتيمّنًا بمسيرتها ورسالتها.
أحد التحدّيات الكبيرة التي واجهناها أيضًا تمثّل في أنّ مجتمعنا يوجّه معظم دعمه وتسويقه لمساعدة الأطفال المرضى، في حين يتمّ اعتبار مرضى السرطان البالغين «استثمارًا خاسرًا». كانت غالبيّة الجهات تدعم الأطفال، ما جعلنا أكثر إصرارًا على إبراز أهمّية دعم المرضى البالغين وإيصال صوتهم إلى المجتمع كي يتعاطف معهم ويدعمهم.
وبرز تحدٍّ آخر هو أنّني لم أكن اجتماعيًّا في البداية، ولم أملك شبكة علاقات واسعة، ما جعل الأمر أكثر صعوبة. كما أنّني لا أجيد الطلب، ولم يكن هناك أشخاص في الجمعيّة يتمتّعون بعلاقات قويّة يمكن أن تساعدنا. لم يكن من السهل أن نحافظ على مبادئنا وسط كل هذه التحدّيات، لكنني أستطيع القول بثقة إنّني التزمت بها تمامًا.
حملت جرحي وجراحات الآخرين، وخرجنا إلى الشارع؛ تظاهرنا، وبرزنا في الإعلام، وأوصلنا صرخة المرضى. هذا ما منح الجمعيّة مصداقيّتها، إذ بدأ المرضى يشعرون بأنّ هناك من يعيش معاناتهم، وينقل صوتهم بأمانة. أضف إلى ذلك التزامنا بالمجّانية والشفافية، فقد قدّمنا حتى اليوم أدويةً تفوق قيمتها عشرة ملايين دولار، من دون أن تأخذ الجمعيّة دولارًا واحدًا من المرضى.
فالإنسان الذي يعطي بلا مقابل، ويقدّم آلاف الدولارات من دون أن يطلب شيئًا في المقابل هو إنسان حرّ… وهذا الأمر قد يكون مخيفًا للبعض.
-إنشاء مركز-بيت لكل مريض سرطان حلم أصبح واقعًا. بمَ يحلم هاني نصّار اليوم؟
هناك مشروعان قيد الإعداد وينتظران التنفيذ. الأوّل هو تحويل عمل الجمعيّة إلى مؤسسة متكاملة تضمن استمراريّتها بمشاركة المجتمع. فقد رحلت برباره نصّار، كما فقدنا د. فادي نصر الذي كان داعمًا أساسيًّا. وسيأتي يوم سأرحل فيه أيضًا. لا أريد أن يضيع جهد عشر سنوات هباءً. لذا، أسعى لضمان استمراريّة الجمعيّة بعدي. يتحقق ذلك من خلال ترسيخ أسس العمل المؤسّسي، سواء من ناحية المبنى، أو فريق العمل، أو استدامة الإدارة والتمويل. فقد أنشأنا بيتًا بهذا الحجم لخدمة مرضى السرطان في لبنان، وهو ما ينبغي أن يكون دور الدولة. لكن إذا لم يكن عملنا مستدامًا، فسيكون مصيره الفشل.
أمّا المشروع الثاني، فيتمثّل في العناية التلطيفيّة، وهي مشكلة كبيرة يواجهها المرضى، إذ تُقَدَّمُ هذه الرعاية في المنازل، ما يترك المرضى الذين يعيشون بمفردهم من دون دعم في خلال أصعب مراحل حياتهم.
لذلك، حلمي الثاني الذي أسعى إلى تحقيقه هو إنشاء «بيت راحة» لمرضى السرطان، حيث يمكنهم قضاء أشهرهم الأخيرة بكرامة ورعاية تليق بهم.
-هل هناك آية أو عبارة تلهمك وتذكّرك بحضور الله في الأوقات الصعبة؟
كانت برباره تستشهد بعبارتين للقديس بولس الرسول: «أنا قويّ بالذي يقوّيني» (فيلبي 4: 13) و«لست أنا أحيا بعد، بل المسيح يحيا فيَّ» (غلاطية 2: 20). وبما أنّنا كنا شخصًا واحدًا بروحنا ورسالتنا، فأنا أيضًا أستمدّ القوّة من هاتين الآيتين.
-ما الرسالة التي تودّ أن توصلها إلى الآخرين الذين يواجهون محنةً مشابهة؟
عندما ينشغل الإنسان بألمه فحسب، يغرق فيه. أمّا عندما ينظر إلى معاناة الآخرين، فيجد في ذلك قوّة تجعله يتجاوز وجعه لأنّ العطاء والمساندة يمنحان الإنسان معنًى أعمق للحياة. كل ما أتحدّث عنه عشناه؛ عندما قمنا برحلة العلم اللبناني، لم تكن مجرّد جولة في القرى اللبنانيّة كما اعتقد البعض، بل كانت رحلة صعبة مليئة بالتحدّيات. كنا نشتاق للجلوس تحت شجرة معيّنة أو زيارة مكان نحبّه، لكن المرض فرض علينا قيوده. مع ذلك، كان الهدف أن نُظهِر للناس أنّهم قادرون على التغلّب على مخاوفهم من المرض، وأن نوحّد اللبنانيين بعيدًا من الطائفيّة والانقسامات، حيث جمعنا توقيعات المخاتير على العلم اللبناني، رمز وحدتنا جميعًا. كما كان للرحلة بعدٌ سياحي، إذ وثّقنا لبنان بثلاث عشرة ألف صورة شملت 1655 قرية لتعزيز السياحة الداخليّة.
عندما أفاد التشخيص القاسي بأنّ برباره لن تعيش أكثر من أسبوعين، لم نستسلم. بعد أسبوعين فقط، سافرنا لنحقق لها ولأولادنا رحلةً لطالما حلموا بها، ولنزور معًا القرنة السوداء.
كل ما قامت به برباره لم يكن لنفسها، بل للآخرين؛ عندما أسّست الجمعيّة، لم تكن تستفيد منها، بل أرادت أن تكون سندًا لغيرها. منذ بداية المرض، أدركنا أنّ الشكوى لن تغيّر شيئًا، فتوكّلنا على الله وقلنا: «هو يدبّر»، وبدأنا نفكر بالآخرين حتى نسينا همومنا.
-ما النعم التي تشعر بأنّ الله منحك إيّاها؟ وكيف تعبّر عن شكرك له؟
أشكر الله على نِعَم أدركت أنّ لولاها، لما تمكّنت من النجاح بهذه الطريقة. فقد وهبني الله مواهبَ ووزناتٍ ساعدتني في نشر رسالة الجمعيّة منذ بداياتها وعلى مدى سنوات. كما منحني صفات مثل العصاميّة، والإصرار، والصدق، والأمانة، وقول الحق من دون تهاون، وهي مبادئ أتمسّك بها دائمًا وأعتبرها أعظم عطاياه.