إلسي كفوري خميس
تعدّدت مواهبه لكن العشق واحد. عشق للفنّ في مختلف أوجهه.
عزف لحن الإبداع، ونحت كنيسة في الصخر، وصوّر بريشته لوحات فنّية. هو المتنقّل بين الموسيقى والرسم والنحت. شغفه يناديه في لحظة اشتياق.
تمرّس في العزف على أكثر من 16 آلة موسيقيّة. واستلهم منها فنّ التصميم والديكور، فحوّل منزله إلى واحة جامعة للثقافات المختلفة من شتى أنحاء العالم.
لا حدود لابتكاره، وقد حوّل رصاصات معركة فجر الجرود التي خاضها الجيش اللبناني ضدّ تنظيم داعش إلى آلة موسيقيّة تعزف النشيد الوطني اللبناني، عربون تقدير وإجلال لشهداء المؤسسة العسكريّة.
إنّه الموسيقي آلان برجي الذي يخبر «قلم غار» عن مسيرته الإيمانيّة المطعّمة بنعم سماويّة كثيرة وعن مواهبه المكرّسة لتمجيد الخالق.
الخطيئة والأمجاد الباطلة
«الاقتراب من الخطيئة أو مجرّد التفكير بها إهانة لإلهي». هكذا يصف برجي حرصه على إرضاء الربّ. ويقول: «عندما أدرك أنّني أخطأت، أشعر بالذنب».
يضيف: «أحسّ بحضور الله في أكثر اللحظات التي أتواصل فيها معه وفق مصلحتي. الإنسان بطبيعته “مصلحجي” مع الربّ. مهما كنّا أقوياء نصل أحيانًا إلى حدّ الاستسلام، والإدراك أن لا سلطة أو قدرة مادّية يمكن أن تساعدنا. عندها، نلتجئ إليه ونطلب أعجوبة إلهيّة. نقول: الحمد لله، لكننا لا ندرك أحيانًا كثيرة معناها العميق، بل تصبح عبارة نردّدها بشكل عادي. هناك حاجة إلى الشعور بأنّ الله يقف إلى جانبنا فعلًا، وينتشلنا من لحظات ضعفنا، أو ربما ينجّينا من حوادث معيّنة، ويمنحنا التعزية والقوّة كي نواجه الموت وفقدان الأحبّة، ويذكّرنا بأنّ الأمجاد الأرضيّة باطلة».
عزف تحوّل إلى صلاة
يواصل برجي سرد اختباره: «منذ صغري، كنت أشارك أيّام الآحاد بالقداس، من دون التعمّق بالكلمات وبمعاني الذبيحة الإلهيّة إلى أن التمست حضور الربّ من خلال تجارب روحيّة».
ويتابع: «الإنسان الموجوع والمجروح قادر على أن يفهم ويتألم أكثر عندما يمرّ بوقتٍ حساس جدًّا ولا يجد أحدًا إلى جانبه. في تلك اللحظات، اختليت كثيرًا بنفسي لأنّني إنسان لا يحبّ أن يُظهِر مشاعره. عندئذٍ، أدركت مدى القوّة التي يمدّني بها الله لأتخطى وجعي ولأفهم معنى الموت والحياة ولا أتعلّق بأحد. كان ذلك صعبًا كثيرًا عليَّ. انطلاقًا من هنا، بدأت أمجّد الربّ في الكنيسة حيث أدركت أنّ عزفي ليس عزف موسيقى فحسب، بل عزف صلاة».
يناجي برجي الله من خلال موسيقاه التي تتحوّل إلى وسيلة للتخاطب مع الربّ. يؤكد أنّ عزفه في القداس إلهام من الروح القدس. ويردف: «أتأمّل من خلال العزف لدرجة أنّني أُضفي على الترنيمة لمسةً خاصة من وحي الروح القدس، وأجعل الناس تصلّي بخشوع وتتأثر بالأنغام. الله منحني نعمة أن أعزف بطريقة مؤثرة جدًّا».
مقابل ذلك، تبرز «الأنا» لدى برجي بعد محاولة كثيرين تقليده، لكنّه يستدرك الأمر. يقول: «راجعت ذاتي، وقلت في قرارة نفسي إنّ إحساسي نابع من لدن الله، حتى وإن أخذوا منّي التقنيّة. يجب ألا أنظر إلى أحد بدونيّة لأنّ ذلك من مفعول الشرّ».
كنيسة الآلام تجسّد وجع يسوع
بنى برجي كنيسة تحت منزله، وأراد من خلالها توجيه رسالة مفادها أنّ «الكنائس المشيّدة في أيّامنا الحاليّة تتحوّل إلى شكل هيكل فحسب أو إلى صالون لاستقبال الناس في الأفراح والأتراح أو مكانًا للتجمّع».
الكنيسة، بالنسبة إلى برجي، هي التي «تحافظ على هندسة معيّنة في البناء». ويتابع شارحًا: «من المهمّ جدًّا أن يكون المذبح على شكل سفينة لأنّ الكاهن هو قائد السفينة. كما أنّ المصلّين هم الركّاب المشاركون في الذبيحة الإلهيّة».
يضيف: «بنيتُ الكنيسة بالشكل الحالي لكي أعيد الرهبة إلى هذا المكان المقدّس. من يدخل إليها، يهمس تلقائيًّا عندما يتحدّث لأنّه يشعر برهبة المكان والمصلوب الذي صنعته موجوعًا متألمًا حتى نتذكّر دومًا عذابات يسوع المسيح على الصليب. من يدخل إلى الكنيسة، يرى الصخر والسلاسل المعدنيّة، يشمّ رائحة الصلاة ويشعر بالهدوء الذي يفسح له المجال للتخاطب مع الله».
حملت الكنيسة اسم «الآلام» رغبةً من برجي في «تجسيد وجع يسوع»، علمًا بأنّها تحتوي أيضًا على صور للقديس شربل والقديسة ريتا ورئيس الملائكة مار ميخائيل، حتى «أتمثّل بهم وبحبّهم للمسيح»، بحسب قوله.
الكنيسة أُنشئت في العام 2014، واستغرق حفرها بين 8 إلى 9 أشهر. وتُقام القداديس فيها من 3 إلى 4 مرات في السنة. يردف برجي: «في ذكرى وفاة والدي، وبمناسبة عيد الميلاد، كما أنّ بعض أصدقائي الكهنة قد يرغب أحيانًا في الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة فيها، لكننا نحتاج إلى إذن مسبق».
وزنات تمجّد الخالق
الابتكار ميزة برجي، وتحويل الأفكار إلى مشروع إبداعي دليل على وزنات كثيرة خصّه الله بها واستثمرها لتمجيده. تسافر في منزله حول العالم. فكلّ ركن فيه يحكي قصّة بلد وحضارة وثقافة. يؤكد أنّ فكرة ديكور المنزل وُلِدَت من رغبته في زيارة البلدان التي جسّدها أو حلم أن يعيش فيها، مضيفًا: «صمّمت كل ركن باحترافيّة عالية حتى يكاد يشعر من يقصدني بأنّه يزور أماكنَ مختلفة من العالم. هذه موهبة من الربّ. عندما أنظر إلى ما حققته من تصميمات وديكور، أشعر بالفخر والسرور».
يقول عن موهبته: «أؤمن بأن لا مستحيلَ في الحياة، وبأنّ الإنسان قادر على فعل ما يريده طالما هناك إرادة ووحي من الروح القدس». أمّا عن رغبته بالاختلاء بالذات، فيجيب: «أحاول قدر المستطاع أن أعيش ليسوع لأنّ كثرة العلاقات والمعارف والسلطة تلهيني عنه».
عن مشروعه المستقبلي، يؤكد أنّ «أفكارًا كثيرة تملأ رأسه، ويشعر بأنّ عليه تحقيقها أو تنفيذها، ويجد الشجاعة لذلك من دون أيّ تردّد أو شعور بالقلق». الأمر متعب كما يقول و«يأخذ مجهودًا ووقتًا لكنّني أمجّد الخالق فيه، وأشكره على النعمة التي أغدقها عليَّ».
قناعة وشكر لله
كثيرون ردّدوا على مسامعه عبارة «حرام أن لا تنتشر عالميًّا»، أو «انظر إلى غيرك كيف يجني الأرباح والأموال»، أو «أنتَ لا تجيد التصرّف أو العمل»… عبارات اعتبرها برجي لا تعبّر عن قناعاته. أمّا السلطة والمال والشهرة، «فلا تعنيني لأنّها تشعرني بأنّني سأفقد سلامي وأصبح مغرورًا، وما حققته بقوّة الربّ أهمّ بكثير من كل ذلك».
ويختم برجي شهادته عبر «قلم غار» بشكر الله على الوزنات التي ميّزه بها عن الآخرين، مشدّدًا على أهمّية الاختلاء بالنفس والرجوع إلى الذات لأنّهما يساعدانه على الإصغاء إلى صوت الخالق ومعرفة مشيئته.