نيكول طعمة
حمل مشعل الرجاء إلى قلوب غارقة في ظلمات اليأس، وجسّد الكلمات أفعالًا من خلال أعماله الخيريّة ومبادراته الإنسانيّة التي تخطّت حدود الدين والطائفة والعرق…
اشتهر بعمله الدؤوب وبعطائه اللامحدود مع المدمنين والمشرّدين، وتمكّن من تغيير حياة كثيرين ممّن كانوا في حالة ضياع ويأس، ومنحهم الأمل بغدٍ أفضل.
اختياره هذه الرسالة النبيلة نابعٌ من إيمانه بأنّ الله دعاه إلى خدمة الآخرين، وبخاصة الأكثر ضعفًا وتهميشًا، فقرّر السعي إلى إحداث فرق حقيقي في حياتهم عبر احتضانهم والعناية بهم، مستلهمًا من تعاليم يسوع المسيح التي تركّز على محبّة الفقراء وخدمة المحتاجين.
قطفت يداه من ثمارٍ سماويّة، فوُلِدَت «سعادة السماء»، ناثرةً فرحًا يتجاوز متاعب الأرض وآلامها وينبع من أعماق نفس تجد راحتها في خدمة الآخرين. في كنفها، يكمن سرّ القوّة التي تحوّل الوجع إلى فرصة للنعمة.
على الرغم من خسارة نجله منذ ثلاثة أعوام، يصرّ على مواصلة رسالته بكل شغفٍ وحبٍّ.
بالنسبة إلى كثيرين، يمثّل الروح الحقيقيّة للإنسانيّة في المجتمع اللبناني بفضل أعماله المُترجَمة في الواقع.
إنّه كاهن الطريق خادم جمعيّة «سعادة السماء» الأب مجدي العلاوي الذي يشارك «قلم غار» أبرز محطات حياته حيث تجلّت بركات الربّ ونُثِرَت الانتصارات.
طفولة معذّبة وعناق الأمل
وُلِدَ الأب مجدي العلاوي عام 1970، ونشأ وسط عائلة فقيرة وملتزمة بتعاليم الدين الإسلامي.
يستهلّ كلامه بالحديث عن طفولة تكلّلت بأشواكٍ ما زال يعاني من رواسبها حتى اليوم. بغصّةٍ، يخبر الأب العلاوي أنّه ترعرع في كنف أسرة بسيطة عاش فيها طفلًا جرّحه الظلم والاضطهاد، وعانى مشاعر الوحدة نتيجة غياب العاطفة والدعم العائلي.
يقول الأب العلاوي: «كانت طفولتي صعبة للغاية. لم أحظَ بأيّ اهتمام ورعاية من عائلتي، بل عانيتُ الجوع والإهمال والتشرّد. وهذا ما دفعني إلى المكوث في الشوارع حوالى 7 سنوات».
تلك التجارب أثّرت بشكل كبير على شخصيّة الأب العلاوي، ودفعته إلى البحث عن معنى أعمق للحياة، فوجد في تعاليم يسوع المسيح الملجأ والقوّة. أدّى به هذا الأمر إلى التعاطف مع الفقراء والمهمّشين، ولا سيّما الأطفال والشباب الذين يمرّون بتجارب مشابهة. يستطرد: «من هنا، جاءت ولادة جمعيّة “سعادة السماء” بمثابة تعبير عن رغبتي في تحويل الألم الشخصي الذي عشته إلى أمل وسعادة للآخرين». لم يكترث الأب العلاوي لعدم توفّر المال، فباع بيته، وسكن في برج حمّود ليتمكّن من تأمين المأوى الملائم للمدمنين الراغبين بالتخلّص من آفة تعاطي المخدّرات، مستلهمًا من «علّية النور» في مديوغوريه. أراد كاهن الطريق أن يقدّم لهم الدعم الذي لم يحصل عليه في طفولته، ويمنحهم الفرصة للعيش بكرامة ورجاء، فهو يرى في كل محتاج أو ضعيف أو متألم صورة المسيح.
ثباتٌ في اعتناق المسيحيّة
تعرّف الأب العلاوي إلى تعاليم الدين المسيحي عبر أصدقاء، ما فتح أمامه واحة من الأمان والإيمان.
في هذا السياق، يروي أنّه اعتنق المسيحيّة، «بفضل صديق مسيحي دعاني إلى الكنيسة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، فإذ بي أشعر بسلام داخلي عميق وحبّ غير مشروط لم أعهده في الماضي. شرعت في دراسة الإنجيل بعمق، ووجدت في تعاليم المسيح ما كنت أبحث عنه من معنى للمحبّة والتضحية والسلام»، بحسب قوله.
من ثمّ، خاض الأب العلاوي رحلة تأمّليّة وروحيّة، واختبر نقلة فكريّة وحياتيّة جذريّة. يشرح: «لم يكن سهلًا عليَّ التخلّي عن بيئتي السابقة والانضمام إلى دين جديد، ولا سيّما مع التحدّيات التي قد أواجهها من المجتمع والعائلة. في 15 آب 1981، قبلت سرّ المعموديّة في كنيسة مار يوحنا مرقس-جبيل. وفي العام 1995، تأهّلتُ من نجلى مطر، ورُزِقنا بأربعة أولاد».
في مرحلة لاحقة، شعر الأب العلاوي بدعوة إلى الكهنوت وبأنّ الله يناديه للعمل الروحي والإنساني. ووجد في الرسالة الكهنوتيّة وسيلة لتحقيق هذا الهدف، فقرّر أن يكرّس حياته بالكامل لخدمة الله والناس. ارتسم كاهنًا في 10 نيسان 2005 في كنيسة سيّدة النجاة للروم الملكيين الكاثوليك في زحلة.
حضور الله في الخدمة والصلاة
يعتبر الأب العلاوي أنّ حضور الله يتجلّى في كل شخص محتاج يقوم بخدمته. كما يعتمد على الصلاة والتأمّل في حياته اليوميّة. ويذكر كيف أنّ الحضور الإلهي يبرز في الأوقات الصعبة، قائلًا: «عندما أواجه التحدّيات، ألمس تدخّل الله بطريقة مباشرة، سواء أكان ذلك من خلال حلّ مشكلة مستعصية أم تقديم المساعدة في الوقت المناسب».
الأخ نور… مرشد وصديق
لدى سؤاله عن دور الأخ نور، مؤسّس قناة «تيلي لوميار» ومديرها، في حياته، يخبر الأب العلاوي أنّه تعرّف إليه في السابعة عشرة في خلال وجوده في حديقة الذوق، فاهتمّ به وقرّر تسليمه مهمّاته بعدما اختار أن يصبح حبيسًا في مركز التلفاز الكائن في الدورة، مضيفًا: «لقد لعب الأخ نور دورًا محوريًّا ومؤثرًا في حياتي، وأتاح لي الفرصة لأتعلّم في قنوات محلّية وعالميّة، ومنحني دعمًا روحيًّا كبيرًا في مسيرتي الكهنوتيّة وفي رسالتي الإنسانيّة. هو أخي ومرشدي وصديقي».
فقدان ماتيو زاده قوّة
في العام 2021، خسر الأب العلاوي نجله ماتيو جراء حادث مأساوي. كانت هذه الخسارة مؤلمة جدًّا، لكنها لم تكسره، بل زادته إصرارًا على متابعة رسالته الإنسانيّة والروحيّة. على الرغم من الحزن والألم، يواصل الأب العلّاوي شكر الربّ على كل شيء، معترفًا بأنّ الموت جزء من رحلة الإنسان نحو الحياة الأبديّة. يقول: «إن الربّ يعطي، والربّ يأخذ، لكنه دائمًا رحوم وحنون». تلك الخسارة عمّقت إيمانه وعلاقته بالله، وجعلته يكمل رسالته بالتسليم الكامل للإرادة الإلهيّة.
لم يتابع الأب العلاوي تحصيله العلمي الجامعي إلا أنّ ذلك لم يشكّل له أزمة إطلاقًا. ويروي لموقعنا أنّه لطالما شجّع ماتيو على وجوب صقل قدراته ومهاراته من أجل تطوير الأعمال المنوطة بنشاطات الجمعيّة التي أسّسها في خدمة الآخرين. في السنة الحاليّة، درس إدارة الأعمال في معهد المعيصرة- جبيل، ونال شهادة امتياز فنّي فيها.
الأيدي ممدودة للنازحين
في الحرب العدوانيّة الراهنة التي يشهدها لبنان، يعمل الأب العلاوي على مؤازرة النازحين لعبور هذه الأزمة من خلال جمعيّة «سعادة السماء».
في كل مرّة، كما وسط الأزمات القاسية، «يهرع القيّمون والمتطوّعون في جمعيّة “سعادة السما” إلى الوقوف الدائم قرب جميع الجائعين والمحتاجين. فكيف بالحريّ في هذه المرحلة العصيبة التي تمرّ بها البلاد؟!…»، يقول الأب العلاوي.
ويضيف: «تستقبل الأفران والمطاعم التابعة لجمعيّة “سعادة السما” والموجودة في عدد من مناطق الشمال والمتن الشمالي وجبل لبنان (تشمل طرابلس وكفرعقّا وشكا وزغرتا والحازميّة وفرن الشباك وعين الرمّانة وبرج حمّود وسدّ البوشريّة وجبيل) النازحين يومين في الأسبوع، وتقدّم لهم وجبات غذائيّة. إلى ذلك، نحن مستعدّون لإيواء عائلات من النازحين في أحد المباني الكائن في غوسطا-كسروان. كما حوّلنا مركزًا في سدّ البوشريّة إلى شقة قد تستوعب حوالى 6 عائلات».
شكرٌ بالقول والفعل
في ختام مشاركة اختباره مع «قلم غار»، يشكر الأب العلاوي الربّ ليس فقط بالكلمات، بل بالأفعال. حياته اليوميّة هي صلاة مستمرّة وشكر لله، فهو يعتبر أنّ خدمته الفقراء بإخلاص هي أفضل تعبير عن شكره للخالق. ويؤكد أنّه في كل مرة يساعد شخصًا أو ينقذ إنسانًا من الضياع، يشكر الربّ على منحه القوّة والحكمة للقيام بهذه المهمّات.