نيكول طعمة
في أوج الحرب اللبنانيّة الدامية عام 1983 وضجيج الرصاص المنهال على الناس، وُلِدَت معاناة لا يمكن للزمن أن يمحو أثرها. حكاية شابة أنهكت الشظايا جسمها لكنها لم تهزم روحها. فجأةً، وجدت نفسها على كرسيّ متحرّك، سجينة جرحين بالغين أصابا الجسد المكبّل الحركة والروح المتألمة لفقدانها شقيقها الوحيد، ما حفر جراحًا غائرة لا تندمل في أعماق والديها…
إنّها تانيا نحّاس التي تخبر «قلم غار» عن مسيرة نابضة بالإيمان والإرادة الصلبة والانتصار على كل التحدّيات.
القذيفة لم تغتل حياتها
تانيا رمزٌ للمرأة المناضلة التي لم تعرف الانكسار يومًا على الرغم من مواجهتها محنًا صعبة، لكنها اختارت طريق الصمود بشجاعة لتكون مثالًا مشرّفًا للإيمان الصلب والإرادة القويّة. تغلّبت على كل التحدّيات، من الشظايا التي اخترقت جسدها إلى مجتمع لم يكن مستعدًّا لاستقبال امرأة على كرسيّ متحرّك، وصولًا إلى تحقيق أحلامها بالعلم والعمل والحبّ.
تعود تانيا إلى ذلك اليوم الأسود: «وسط أهوال الحرب وأصوات القذائف والانفجارات التي ملأت أجواء منطقة الحدث، حاولت عائلتي والجيران الاحتماء في ملجأ، ظنًّا منهم أنّه ملاذٌ آمن. لكن الحرب لا تعرف ملاذًا ولا أمانًا، إذ اقتحمت إحدى القذائف الملجأ لتصيبنا جميعًا بجروح بالغة». خرقت الشظايا جسد ابنة الثماني سنوات، مسبّبة لها شللًا نصفيًّا، لتبدّل مجرى حياتها وحياة أسرتها إلى الأبد.
إلى جانب الشلل النصفي الذي بدأت الطفلة التكيّف معه في واقعها الجديد، تخبر نحّاس أنّ «القذيفة لم تغتل حياتها الطبيعيّة فحسب، لكن المأساة الأكبر تمثّلت في فقدان والديَّ جان-دارك وشفيق بصرهما. والصدمة الكبرى عشتها بعد سنة عندما اكتشفت حقيقة موت شقيقي بطريقة غير متوقعة، بعدما كان والدي قد أخبرني أنّه ما زال في المستشفى يتلقّى العلاج».
هكذا صُدِمَت بموت شقيقها…
في أثناء إقامتها في معهد بيت شباب لتأهيل المعوّقين، تفاجأت نحّاس بصورة على غلاف مجلّة «الحسناء» تبرزها وشقيقها، وتروي لها الحقيقة المرّة التي لم يستطع أحد إخبارها إيّاها مباشرة. تلك اللحظة لم تكن كشفًا لحقيقة مؤلمة، بل حفرت جرحًا جديدًا أُضيف إلى سلسلة الأوجاع التي تحمّلَتْها تانيا الصغيرة في رحلة حياتها المليئة بالصعاب.
على الرغم من الأحزان التي أحاطت بعائلة نحّاس من جراء خسارة ابنها وفقدان والديها بصرهما والشلل النصفي الذي أقعد طفلتها إلا أنّ الوالد اختار أن يتجاوز آلامه ليقف إلى جانب ابنته في محنتها بعزيمة لا تعرف الانكسار. حضنها ودعمها بكل ما أُوتي من قوّة وإيمان. على الرغم من أنّ والدتها بقيت تحت وطأة الصدمة طويًلا، «استطاع والدي أن يكون نورًا في حياتي، مكرّسًا جهوده لتوفير السبل التي تمكّنني من الاستمرار. أصرّ على أن ألتحق بمعهد بيت شباب، حيث بدأت بتلقّي العلاج الفيزيائي وبالتكيّف مع وضعي للاعتماد على نفسي».
تصميم يكسر الحواجز
في الثانية عشرة، أظهرت تانيا إصرارًا لافتًا على متابعة حياتها العلميّة وسط كل التحدّيات. التحقت بمدرسة عاديّة في بيت شباب لتكمل دراستها الابتدائيّة، مثبتةً قدرتها على الاندماج في بيئة تعليميّة تقليديّة. لكن مع تقدّمها في الدراسة وازدياد حاجتها إلى بيئة تعليميّة تراعي حالتها الصحّية، انتقلت إلى مدرسة متخصّصة بأصحاب الهمم، حيث نالت شهادة المرحلة المتوسطة.
ماذا عن المرحلة الثانويّة؟ تجيب نحّاس: «رحّب بي المعهد الأنطوني في بعبدا بطريقة استثنائيّة وجهزّ لي صفًّا خاصًا يتلاءم واحتياجاتي، موفّرًا الدعم اللازم لاستكمال الدراسة الثانويّة، ومتجاوزًا عقبات وضعتها مدارس رفضت استقبالي بسبب اعتمادي على الكرسيّ المتحرّك وهي غير مجهّزة لأمثالي. واصلتُ دروس المرحلة الثانويّة في الصفّ عينه المجهّز لحالتي حتى أتممت المرحلة الثانويّة بنجاح».
رحلة التعليم لم تنتهِ. بتصميمٍ لا يلين، التحقت تانيا بالجامعة اللبنانيّة لتتخصّص في الحقوق، متحدّية الصعوبات التي واجهتها بسبب عدم تجهيز المكان للمقعدين على الكرسيّ المدولب إلا أنّ شغفها بالعلم دفعها في خلال فترة كورونا للتخصّص في العلاقات الدوليّة والدبلوماسيّة في جامعة الحكمة، وحازت شهادة الدراسات العليا.
أتى هذا الإنجاز تتويجًا لجهودها المستمرّة وإصرارها على تخطي ما يعوق طريقها كي تثبت أنّ العزيمة يمكن أن تتغلّب على أيّ عقبة.
حضور الله يرافقها في كل خطوة
حضور الله في حياة تانيا واضح ومتجلٍّ في كل محنة وخطوة خطتها في مسيرتها.
عن هذا الجانب من حياتها، تخبر أنّها ترعرعت في كنف عائلة مسيحيّة ملتزمة بحبّ الكنيسة والإيمان بالله، حيث كانت والدتها مصدر إلهام عميق، تزرع بذور الإيمان في قلوب أبنائها، وتشدّد على أهمّية الصلاة والثقة بتدبير الربّ. وتردف: «هذا الإيمان المتجذّر في قلبي منذ طفولتي شكّل لي دعامة أساسيّة لمواجهة المحن العاصفة بنا كعائلة».
تتابع: «وسط جراح الحرب والمآسي، جاء حضور الله معنا كظلٍّ يرافقنا ويقوّينا. فرغم الألم والخسارة، رُزِقَ والداي مولودًا جديدًا ليكون نورًا في أيّامنا المظلمة وعلامة على بركات الله التي لم تغب عنّا. وشكّلت تلك اللحظة شهادة على محبّة الربّ ورعايته الدائمة للمؤمنين به».
وتؤكد أنّها تشعر دائمًا بأنّ يد الله تمسك بيدها، ترشدها وتوجّهها، كما والدها يمسك بيدها من جهة أخرى. تقول: «حضور الله ليس فقط عزاءً في أوقات الشدّة، إنما هو مصدر قوّة ودافع لتحقيق أحلامي وتخطّي التحدّيات التي بدت مستحيلة».
تانيا تلتقي شريك حياتها
بعد مرور 43 عامًا على تلك الفاجعة الأليمة، تعيش نحّاس حياتها بشكل طبيعي. فهي موظفة في إحدى الشركات الخاصة منذ 19 سنة، وتعمل في قسم الموارد البشريّة.
لم تشكّل إعاقتها مشكلة أمام حبّ حياتها عندما وجدت شريكًا يحبّها كما هي. تروي تجربتها: «منذ سنة، تزوّجت الرجل الذي رأيت فيه رفيقًا حقيقيًّا؛ لم ينظر إليَّ كمعوّقة، بل كشريكة تتمتّع بالصفات التي يتمنّاها الرجل في زوجته». تدرك تانيا أنّ الإعاقة لا تلغي المشاعر أو القدرة على الحبّ، إنما الإنسان، مهما كانت حالته، يتمتّع بعواطف عميقة وقدرة على تبادُل الأمان والفرح والعيش بسكينة».
في الختام، تشكر نحّاس الربّ عبر «قلم غار» على حضوره الدائم الذي شعرت به في كل خطوة خطتها، وعلى حبّه المحيط بها من خلال عائلتها وأصدقائها. كما تحمده على مرافقتها باستمرار، فهو المعين الذي لم يخذلها، والقوّة المؤيّدة على الوقوف مرّة تلو الأخرى لتكون شاهدة على عظمته ورحمته في حياتها.