دعاء حمصي فرح
ممثّل ومخرج وأستاذ جامعي، لمع على الشاشة والمسرح والسينما. متميّز بنتاجٍ متعدّد ومتنوّع من الأعمال، لامس فيه حدود العالميّة.
هي صورته من الخارج، متقنة في صقل موهبته وأدائه، قبل التعرّف إليه متكلّمًا بصدق وعفويّة عن أعماقه وحياته.
إنه ميشال حوراني الذي يشارك «قلم غار» شهادة حياته، مقاربًا المفارقات المهمّة في مسيرته المفعمة بحضور الربّ والجرأة والإيمان.
بين الترهّب والتمثيل
يؤكد حوراني أن اختبارات الحياة لا تخيفه. بدأها باكرًا في عزّ شبابه إذ اختبر في الثامنة عشرة من عمره الحياة الديريّة مع الرهبانيّة الأنطونيّة على مدى ثمانية أشهر. هذه الفترة فسحت له المجال لاختبارٍ روحي، «فأنا لم أجد نفسي في ختامها مدعوًّا للترهّب. ولا يمكن الحديث عن فشل، فالنجاح يكمن في صدق المرء مع نفسه. أمّا الفشل، فيتمثّل في بقاء الإنسان في الرهبانيّة وعدم الصدق مع ذاته ومع الربّ». في مطلق الأحوال، كانت فترة مهمّة بالنسبة إلى حوراني الذي يعتبرها «مرحلة اختبار ومقدّمة للدخول إلى عالم التمثيل».
التحصين الديني والأسئلة الوجوديّة
رحلة حوراني في الحياة انطلقت من بلدته الجنوبيّة مرجعيون حيث أبصر النور، وقد جمع فيها منذ العام 1999 حتى اليوم باقة كبيرة من الأعمال الفنّية المتنوّعة، سواء في مجال المسرح أم السينما أم التلفزيون، حاصدًا الكثير من الجوائز.
خطّ المرور السريع والتنقّل بلباقة في هذا المثلّث السحري من الحضور سمح له بأن يخوض التجارب الكثيرة ويسبر أغوار كل القضايا. ففي حياة الدير، يقول حوراني: «كنت أكتشف نفسي، كما ذهبت إلى المسرح للغاية عينها».
يخالف النظرة الشائعة بين الناس ومفادها أن التمثيل مناقض للالتزام الإيماني، ويؤكد أنهما «لا يختلفان، ولا شرخ بين هذين العالمين. إنّما ثمة ترابط وثيق، ولا سيّما أنني «أبحث في المسرح عن الأسئلة الوجوديّة والجوانب الإنسانيّة».
يحصّن حوراني نفسه بالعلم، شغوفًا بملاحقة ثنايا العالم الفنّي. وقد نال شهادات من جامعات ومعاهد عدّة في مجال الفنون المسرحيّة والتمثيل والإخراج المسرحي، معدًّا العدّة لاحترافٍ قدّم فيه صورة متجانسة بين مهنته وإيمانه، ومحافظًا على القيم الإنسانيّة التي تعلّمها من الإنجيل.
الصدق والسلام الداخلي
يستفيض حوراني في شرح مفهومه للإنجيل، قائلًا: «يهمّني أن أعيش الصدق مع نفسي، فالإنسان المؤمن لا يمكن أن يكذب، ولا سيّما في سلوكه وعيشه الخير والمحبّة، وهذه هي القيم الأساسيّة». ويضيف: «هكذا، أجرّب أن أجسّد هذه القيم إنسانيًّا، وأتطلّع إلى الآخر، محاولًا أن أعيش المحبّة معه، وألا أعيش الشرّ، بالحدّ الأدنى. وهذا هو الأهمّ».
لدى سؤاله عن انعكاس هذه الرؤية على الأعمال الفنّية، يلخّص الجواب بكلمة «الصدق»، ملاحظًا أن «الإنسان الذي يعيش السلام الداخلي لديه قدرة أكبر على التعامل مع مشاعره وفهم ذاته والآخر».
ويرى أن «مسار إعداد الممثّلين يدخل في جوانب عدّة من علمَي النفس والاجتماع وكل ما له علاقة بالإنسان، بما يكفي لتزويدهم بالحصانة لتحقيق الإبداع في العمل من جهة، ولمواجهة الإغراءات التي تأخذ المرء إلى أماكن سيّئة -عقليًّا أو جسديًّا أو روحيًّا- من جهة أخرى».
وزنة مهمّة ورسالة سامية
يخصّ حوراني الجانب الديني مساحة كبيرة في أعماله، ويفتخر بأنه من أكثر الممثّلين اللبنانيين عطاءً في هذا المضمار حيث «أستطيع أن أستثمر هذه الوزنة، فهي نوع من التبشير أو الدعم أو الإضاءة على حياة القديسين والقيم المسيحيّة، ما يشكّل رسالة لن أتردّد في إكمالها.
يذكر حوالى 8 أعمال دينيّة ومسلسلات نفّذها لتيلي لوميار، ويعتبر أن فيلمَي «قديس كفيفان» (لعب فيه دور البطولة) و«الربّ يراني» (سيرة الطوباوي الأخ إسطفان نعمة) من محطاته الرئيسة.
حضور الربّ في الأسرة
الالتزام الديني مسار يترسّخ انطلاقًا من العائلة الصغيرة والشراكة والاختلاط في الكنيسة من ناحية الطقوس الدينيّة، بحسب حوراني.
ويضيف: «زوجتي ملتزمة بكنيسة مار تقلا في جلّ الديب، وأحاول التركيز مع أولادي الثلاثة على قيم الإنجيل. أعتبر أن الطقوس مهمّة لكنها ليست الأهمّ، مستندًا إلى الآية «أريد رحمة لا ذبيحة» (هو 6: 6). ويكمن الأكثر أهمّية في السلوك وتجسيد القيم الإنجيليّة في حياتنا».
لا يجد حوراني صعوبة في التوفيق بين الإيمان والسلوك، «فلا شيء يمنعني من أن أعيش حياتي وأفرح بها ما دمت أعلم بأنّ أيّ شيء أقوم به لا يؤذيني ولا يضرّ المحيطين بي».
عندما يتعرّض للأذى، يبتعد حوراني عن مسبّبه بكل بساطة، من دون أن يحمل له أيّ ضغينة. وإذا دعت الحاجة إلى المسار القانوني للحلّ، فيعتبره سلوكًا حضاريًّا.
الموت والإيمان
التجربة الأقسى التي تدفع حوراني إلى التفكير بالإيمان هي الموت، فيقول: «فقدان والدي تزامنًا مع دراستي الجامعيّة، ومرض والدتي ووفاتها قبل سنتين، دفعاني إلى طرح أسئلة كثيرة متعلّقة بهذه الحياة وبوجودنا فيها».
ويتابع: «نناضل ونخوض معارك الحياة. في النهاية، يأتي الموت في وقته الطبيعي أو يبكر في مجيئه، ففي المسار الطبيعي أنا متصالح مع الحياة».
ويرى حوراني أن «التحدّي الأكبر إيمانيًّا يكون عند رؤية الشرّ والحروب، بالإضافة إلى السؤال المطروح عن الأذى الدائم. فما موقف الله من هذه الأمور؟ إنها جدليّة لا تنتهي».
ويؤكد أن الإنجيل يحمل مفاتيحَ معيّنة، فضلًا عن إرشادات يسوع المسيح ونمط حياته حتى يستطيع الإنسان أن يراها ويتعلّم منها، مختصرًا إيّاها في الصدق والخير والمحبّة.
التجربة المضيئة
بالنسبة إلى حوراني، لا عتب على الربّ، فـ«هو يهتم بي أكثر ممّا أهتمّ به، والصلاة تشكّل مساحة روحيّة أنشد منها السلام الداخلي، وأكتشف كل مرّة أن أمورًا متشابكة ومعقدّة تتبدّد من دون أن أطلبها أو أخطّط لها».
ويذكر مثالًا على ذلك مشكلة في الإنجاب عانى منها في بداية حياته، تابعها طبّيًا مع مرافقة روحيّة «أشعرتني بالتدخل الروحي، وبأن اختبار عمل الروح ينعكس إيجابيًّا على الحياة».
يصف حوراني نفسه بأنّه «غير تقليدي في الإيمان، ويرى الله في مطارح أبعد من الكنيسة؛ في التفاصيل الصغيرة الكامنة في الحياة والكون والطبيعة، وفي وجوه بعض البشر».
ويختم حوراني مشاركة اختباره عبر «قلم غار»، رافعًا الشكر العميق إلى الله، وقائلًا: «الربّ أعطانا قيمًا إنسانيّة، والحبّ والمحبّة أساسًا. لهذا، أحمده دومًا، فهو لا ينتظر منا سوى أن نعيش على صورته، صورة الخير والجمال».