دعاء حمصي فرح
لا يحيا الإنسان بالكلمة فحسب، إنما بالصورة المعبّرة، الحاضرة والشاهدة والناطقة، لكن ليس أيّ صورة، إنما تلك التي تنقل الحدث بعدسة من يشارك فيه، تختزن التاريخ ومراحل الكنيسة عبر الأجيال. من هنا، تنطلق رحلة المصوّر منير إبراهيم جبر.
ليس رقمًا عاديًّا عدد السنين التي أمضاها مع عدسته في خدمة الكنيسة؛ خمسون سنة من عمر منير إبراهيم جبر الذي نشأ في عائلة مسيحيّة معروفة ملتزمة في ربوع بلدة فغال الجبيليّة، هو الابن الأوسط بين أربعة صبيان وفتاة. تشرّب منذ الصغر حبّ مريم العذراء ويسوع، والإيمان المتوارث عن الأجداد ووالده إبراهيم، أستاذ اللغة الإنكليزيّة في مدرستَي الفرير واليسوعيّة، فنما بين نِعَم الربّ وإرادته.
يشارك المصوّر المحترف منير إبراهيم جبر مسيرته الروحيّة النابضة بالصورة الناطقة عبر «قلم غار».
شرارة الرحلة الروحيّة
أنهى منير علومه الجامعيّة، وتخرّج في جامعة الكسليك مهندسًا داخليًّا في العام 1985. لكن المحطة الرئيسيّة في ولادة شغفه بالعمل الكنسي تجلّت في مدرسة الفرير-جبيل التي ارتادها. يقول: «انخرطت في “الجيش المريمي”، فجمعتني الصلاة مع كوكبة صغيرة ناشطة إلى أن انبثقت “الحركة الرسوليّة المريميّة”، وكنت من مؤسّسيها في العام 1973. التزمت بنشاطاتها واجتماعاتها لأنّ حضورنا شهادة لحضور الربّ فينا، فأنا أؤمن بأنّ الله يحضر في كل مكان وزمان، والمهم أن نفتح له أيدينا».
عيناي وكاميرتي للربّ
وجد منير رسالته لتثبيت حضور الربّ في الحياة والمجتمع: «عيناه والكاميرا» في شهادة على إرث الكنيسة الغني وتاريخها المديد. وثّق الإرث الروحي في أرشيفه الضخم الذي يعجّ بالصور النادرة والأحداث الفاصلة. يقول: «لدي نتاج خمسين سنة ما يفوق المليون صورة موثّقة تحكي الكثير من أخبار الكنيسة وآبائها ونشاطاتها وأحداثها المهمّة».
لا يعير منير اهتمامًا لاستغراب الناس تصوير مشاهد روتينيّة في الكنيسة، «فأنا ألاحظ التغيير في كل قداس، حضور الناس والكهنة والعظات والزينة. وأثبتت الأيّام أنّ كلّ ما يمرّ لن يعود أبدًا. فالنشاطات تغيّرت، بخاصة بعد كورونا والحروب».
يحكي منير عن أرشيفه، كحارس أمين لتاريخ الكنيسة وتفاصيلها الروحيّة. يؤكد: «أرشيفي مقدّس، وقيمة كبرى روحيًّا واجتماعيًّا». ويضيف: «أعمل كل شيء مجّانًا، وأقدّمه للربّ. ولم أطلب مرّة أيّ مقابل من أحد».
وإذا لاحظ غياب أيّ اهتمام بالأرشيف من الإكليروس، يقول: «ليس لديَّ أيّ عتب لأنّهم ليسوا من أوكلوني بالمهمّة وقصّروا معي، فأنا في خدمة يسوع، على مثال الكنيسة». يستخدم منير حاليًّا مواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتيك توك وسواها لتسهيل طريقة النشر ومشاركة الناس، ويتطلّع إلى إنشاء موقع يحتوي على أرشيفه في المستقبل.
«التحدّيات الماليّة أساسيّة للحفاظ على هذا الأرشيف»، يقول منير، مردفًا: «من أهمّ القواعد حفظ الأرشيف في أماكن متعدّدة، وحماية الصور السلبيّة (النيغاتيف) والجهاز أو النظام المستخدَم لتخزين الصور والملفات الرقميّة (السيرفر) واعتماد التقنيّات الحديثة، وهي مكلفة جدًّا وتفوق إمكانيّاتنا حاليًّا. فالتصوير ليس مجرّد عمل فنّي، بل هو رسالة لتخليد الإيمان وتوثيق تاريخ الكنيسة الجامعة».
جوهر الهويّة الروحيّة
الصورة الممهورة بعدسة منير جبر مختلفة عن غيرها؛ يميّزها الناس، وفيها جوهر الهويّة الروحيّة. يقول منير: «عندما أصوّر الكاهن في خلال تلاوته الكلام الجوهري ورفع الكأس، أشعر في بعض الأحيان بأنّ عينَي الأب معلّقة بالمصلوب أو القربان، فتخرج من حقل النظر مصلّية. حينها، يرفعنا الكاهن روحيًّا في القداس، ويكون قادرًا على إيصال عمق اختباره بأفضل صورة».
لمنير جبر مواعيد ثابتة لا ينساها؛ في عنّايا، أعياد القديس شربل والثاني والعشرون من كل شهر، والعاشر من كل شهر عند القديسة رفقا، عدا الاحتفالات الدينيّة التي يصوّرها لدى كل الطوائف المسيحيّة، الكاثوليك والأرثوذكس، فهمّه الكنيسة الجامعة قائلًا: «أنا لا أحصر نفسي في الكنيسة الكاثوليكيّة. بالنسبة إليَّ، يسوع واحد للجميع».
اللحظات الروحيّة المهمّة كثيرة، يعجز عن الاختيار بينها، فلا يفاضل حين يُخَيَّر بينها لانتقاء الصورة الأقرب إلى قلبه. ويسترسل في تعداد المناسبات: «زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر لبنان، لقاء البابا فرنسيس والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وزيارة الأب الأقدس الأردن، وانتخاب مار بشارة بطرس الراعي بطريركًا في بكركي، فكنت من أوائل الواصلين لتسجيل هذه اللحظة التاريخيّة. رافقت معظم جولات ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع، وذخائر القديسة مارينا، وتمثال عذراء فاطيما، وشهود ظهورات مديوغوريه، وأبرز نشاطات السفارة البابويّة».
اهتمّ بتأكيد الحضور المسيحي في بيروت بعد الحرب، فأطلق مبادرة زيارة السبع كنائس سنويًّا مع رعويّة الخريجين الجامعيين على مدى 12 سنة.
ما وراء الصورة
يستحضر منير جبر في تصويره حضور الله في حياة المؤمنين، المتطابق مع قول القديس يوحنا الدمشقي: «الصورة هي نافذة على الأبديّة، فهي تنقل عقولنا من الواقع المادّي إلى الحقيقة الروحيّة التي تمثّلها».
يروي في هذا السياق أكثر من حادثة، قائلًا: «عند الله علامات لا نفهمها»، موضحًا أنّه هالَه ما شاهده في خلال قداس شارك فيه بوادي قنّوبين: «كان الكاهن يرفع القربان، وعيونه مرتفعة نحو العلى، حين بدا كأنّ خيطًا يصل بين مقلتيه والسماء». وتكرّر الأمر، «كنت أصوّر تمثال يسوع الملك، فعلا رأسه شهب نازل من السماء».
«لكن ما حصل معي في دير القديسة رفقا أمر آخر»، يتابع منير. ويعود بالذاكرة إلى حوالى سنتين، وقد اعتاد زيارة دير القديسة رفقا في العاشر من كل شهر للمشاركة في القداس والمسيرة. ولا يدري لأيّ سبب، أخطأ في التاريخ وزار الدير في التاسع من الشهر. فاستغرب عدم وجود مؤمنين أو مسيرة. عندما سأل الكاهن، أدرك خطأه. ويضيف منير: «صلّيت وصوّرت. عندما عدت إلى المنزل لأستعرض ما صوّرته، فوجئت بالصورة التي التقطتها فوق ضريح القديسة رفقا التي أظهرتها مكلّلة بالشوك وصورة يسوع المسيح تتوسّط صورتها».
يعجز منير عن وصف ما حصل معه؛ لم يجد تفسيرًا أو مثيلًا له، فيسلّم بعظمة الربّ. ويقول: «نحن أبناء الرجاء والكنيسة، وإيماننا هو التسليم الكلّي لإرادة ربّنا يسوع المسيح، طالما نحن نعطيه من ذاتنا، فهو يعرف ماذا سيعمل لتتمّ إرادته فينا».
مجدًا لاسم الربّ!
يتطلّع منير جبر إلى حضور الربّ الدائم بفرح، مضيفًا: «يسوع المسيح أعطى ذاته وجسده ودمه؛ تألّم وصُلِبَ ومات وقام من أجلنا. بقيامته، نرجو القيامة الآتية».
الفرح العظيم، بالنسبة إليه، هو «عندما أتناول القربان، وأشكر يسوع لأنّنا كلّما سلّمناه أنفسنا، يعمل فينا العجائب. لهذا أقول إنّ مهمّتنا تتمثّل في العمل اليومي حتى يتمجّد اسم الربّ بشفاعة مريم العذراء والقديسين».
يختم منير جبر مشاركة اختباره عبر «قلم غار»، معربًا عن اطمئنانه لأنّ «الكنيسة ثابتة وصامدة لا تزول. قد يبتعد الناس عنها، لكن يسوع باقٍ وينتظر عودة الناس إليه، فعليهم أن يعرفوا أنّ يسوع هو الأوّل والآخر».