ماري حنّا
في العام 2023، أُدرِج مزار «سيّدة بشوات»-قضاء بعلبك على خارطة السياحة الدينيّة. هذا المزار الذي كان ولا يزال حتى اليوم يستقطب الزوّار والمؤمنين من مختلف أنحاء لبنان والعالم.
يُطلَق على شفيعة المزار اسم «سيّدة بشوات العجائبيّة» لأنّها «تشفي المرضى وتصنع العجائب». كثيرة هي الأخبار والخوارق التي انتشرت بين الناس عن معجزات وشفاءات جمّة حصلت بشفاعة سيّدة بشوات. ولا تزال هذه العجائب مستمرة حتى اليوم؛ لعلّ أبرزها ما حدث عام 2004 مع الطفل الأردني محمد الهوادي، ابن العشر سنوات الذي كان مشاركًا في رحلة إلى عيون السيمان ودير الأحمر برفقة أصدقائه.
لدى وصول الطفل إلى جوار تمثال مريم العذراء في الكنيسة، راح يتمتم صلاةً لم يكن يعرفها، قائلًا: «السلام عليكِ يا عذراء مريم، يا سيّدة العالم، يا سيّدة السلام والمحبّة. هناك شيوخ وأطفال ونساء يُقتَلُون في هذا العالم، فازرعي السلام والمحبّة والحرّية على وجه الأرض، يا سيّدة الأرض». وبحسب الطفل محمد، بعد الانتهاء من صلاته التي لم يكن يعرفها سابقًا، شاهد التمثال يتحرّك يمينًا ويسارًا، ورأى عينيه تفتحان وتغمضان. وكان ذلك في 21 آب 2004 المصادف الذكرى المئويّة الأولى لوضع تمثال العذراء في المزار.
تسمية مزار «سيّدة بشوات»
تعود تسمية سيّدة بشوات إلى قديس مصري اسمه الأنبا بيشواي الذي نُقِلَت بعض ذخائره إلى بشوات، تحديدًا إلى دير بناه اليعاقبة مكان الكنيسة القديمة (يُعتقد أنّ عمرها يفوق الألف عام)؛ بحسب التقليد، زُرِعَت شجرة سنديان قرب الكنيسة بالتزامن مع بنائها. فأشار عمر شجرة السنديان إلى تاريخ بناء الكنيسة، وقد قدّر الخبراء الزراعيّون أنّ عمر هذه السنديانة يتجاوز الألف عام.
للوقوف أكثر على تاريخ كنيسة سيّدة بشوات وتمثالها الشهير، أجرى «قلم غار» حديثًا خاصًّا مع مؤلف كتاب «تاريخ سيّدة بشوات: مزارها وعجائبها»، المؤرّخ د. عصام كرم الذي أفادنا بالآتي: «في العام 1778، بعد انتصاره على وكيل أحمد باشا الجزّار (والي عكا) وحاكم بعلبك، أهدى الأمير يوسف الشهابي (حاكم لبنان آنذاك) أحد ضبّاطه البكباشي بركات كيروز «بكليلك بشوات» (بكليلك كلمة تركيّة تعني الأرض المشاع ملك الدولة). كان بركات يعاني مع أقربائه في بشرّي من مشاكل رعي المواشي في خلال فصل الشتاء لأنّ الزغرتاويين كانوا يمنعونهم من النزول مع مواشيهم نحو طرابلس والكورة».
وأضاف: «هاجر بركات وأخوه خيرالله (أبو خير) وأنسباؤهما من الرعيان، وانتشرت العائلات الكيروزيّة في بشوات ونبحا ودير الأحمر وشليفا وشعت وعيناتا على فترات متتالية.
حلّ البكباشي مع أخيه (أبو خير) وعائلتيهما ومواشيهما في بشوات التي كانت قرية صغيرة تضمّ ديرًا مهجورًا وبعض العائلات الشيعيّة (آل زعيتر) وبقايا يعقوبيّة، ورعاة من تنورين والعاقورة، بالإضافة إلى كاهن من يحشوش يرعى مزار السيّدة المهدّم. بعد وصوله، بنى بركات كنيسة صغيرة لصورة السيّدة العذراء البيزنطيّة التي كانت موجودة أصلًا».
وتابع كرم: «في العام 1799، بعد احتلال الإمبراطور نابوليون بونابرت مصر، وصل الخبر إلى المسيحيين في المنطقة. فتنفّسوا الصعداء، وقُرِعَت النواقيس معلنةً انتهاء كابوس أحمد باشا الجزّار وعودة الحرّية الدينيّة».
واستطرد: «لم يرق هذا الأمر لليعاقبة والأروام والمتاولة، فتحالفوا للقضاء على القادمين الجدد إلى بشوات، وشنّوا هجومًا على كنيسة السيّدة وذبحوا الكاهن على المذبح بينما كان يحتفل بالذبيحة الإلهيّة في حضور بعض النسوة والأولاد. وصل الخبر إلى رعيان آل كيروز، فطرحوا الصوت على أقاربهم في بشرّي ودير الأحمر. عندها، تسلّح الشباب وشنّوا هجومًا على كل دخيل في بشوات من أجل حماية بيوتهم، فثبّتوا وجودهم في المنطقة».
هديّة مرسل يسوعي إلى المؤمنين
واصل كرم سرد تاريخ سيّدة بشوات: «في العام 1790، تعاون أهل بشوات على بناء كنيسة من الحجر الغشيم. وفي العام 1830، بنى آل كيروز كنيستهم الحاليّة (القديمة). أمّا الكنيسة الجديدة، فبدأ آل كيروز بناءها عام 1932، وانتهى العمل فيها عام 1966.
في العام 1898، زار بشوات المرسل اليسوعي الأب جوزف غودار، ووعد الرعيان فيها بهديّة قيّمة لكنيستهم المتواضعة.
في العام 1904، وصل التمثال الأزرق (تمثال عذراء بونتمان Pontmain) إلى محطة قطار بعلبك، فنقل أهل بشوات الصندوق الخشبي على ظهر جمل، ووضعوا التمثال بعناية على رأس العمود الرخامي الذي لم يتبقَّ منه اليوم سوى قطعة صغيرة (حوالى 20 سنتيمترًا)».
وأكمل كرم شرحه: «في العام 1919، نشبت النار في الكنيسة وأتت على محتوياتها.
في العام 1964، شقّت شركة حوريّة السوريّة الطريق الحاليّة، بعدما كانت طريقًا ترابية ضيّقة. وأصبح المزار ذا شهرة عالميّة، يقصده المؤمنون من كل أنحاء لبنان والعالم، وتحدث عجائب الشفاء فيه من حين إلى آخر».
وختم كرم حديثه إلى «قلم غار»، قائلًا: «في 21 آب 2005، تكلّم تمثال العذراء الأزرق مع الصبي الأردني محمد الهوادي، وبدأت الشفاءات تنهال على زوّار بشوات، فتدفّق المؤمنون بعشرات الآلاف يلتمسون من العذراء البركات والنعم».