غيتا مارون
«الأسقف هو خليفة الرسل وعلى مثالهم يدعوه يسوع للإقامة معه. هناك يجد قوّته وثقته» (مقتطف من كلمة ألقاها البابا فرنسيس في 8 أيلول 2018).
قلبٌ في أسقف…
عندما تنظر إلى عينيه المشبعتين بالحنان والمتّشحتين بالصمت، تقرأ آلام المسكونة مجتمعةً في جنان منير الصغير، ابن الخامسة الذي عاين جريمةً مروّعة خطفت منه ملاكيه. لكن عناق الربّ له رفعه، وشفى جراحه الغائرة في العمق، فحصلت معجزة أدخلت قلبه في سلام عميق: غفر لقاتل والديه!
شهادة حياته معمّدة بدموع الألم العميق والحزن الدفين لكنها نابضة بالقيامة والرجاء… عبرات تأبى مغادرة مقلتيه، بل تواكب العبور المتجدّد من الموت إلى الحياة، فهو لن ينسى وجعه أبدًا، على الرغم من عدم سماحه لجراحه النازفة بأن تدمّر روحه النقيّة…
صُلِبَ مع المسيح وطُبعت مسامير الصليب في قلبه لأنّ ما رآه وعاشه لا يمكن لعقلٍ بشري احتماله.
يد العناية الإلهيّة احتضنت قلبه الصغير، فأزهر مغفرةً حين تفتّحت براعمه على الحياة، وأصبح مدرسةً في الغفران!
قصّته تحمل في طيّاتها الولادة الجديدة والقيامة، فهي ميلاديّة وفصحيّة في آن!
إنّه راعي أبرشيّة البترون المارونيّة المطران منير خيرالله الذي يشارك «قلم غار» شهادة حياته العابقة بالمحبّة والغفران والرجاء، بقلبٍ متّقد بسلام يسوع المسيح.
وُلِدَ المطران منير خيرالله في 2 كانون الثاني 1953، وهو ابن مراح الزيات-البترون، وجار القديسة رفقا. والده طانيوس بطرس خيرالله ووالدته كاتبه إسطفان نادر، وله ثلاثة إخوة هم سمير وخليل ويوسف.
فاجعة مراح الزيات
«اختبرتُ حضور الله في العائلة. أنتمي إلى أسرة متواضعة؛ كان أبي مزارعًا وأمّي معينة له في عمله. تربّينا في جوٍّ روحي يفيض بالإيمان، فنحن عائلة كهنوتيّة ورهبانيّة. وقد زرع جدّي لوالدتي الخوري بطرس خليل الخوري بذور الدعوة الكهنوتيّة في قلبي»، يخبر المطران منير خيرالله.
في ليلة 13 أيلول 1958، عشيّة عيد الصليب، كان منزل عائلة خيرالله في مراح الزيات ينبض بالحياة والقداسة؛ ربّ العائلة طانيوس وربّة المنزل كاتبه احتضنا أطفالهما الأربعة بحبٍّ وحنان، لكنهما لم يعلما أنّ يد الشرّ ستتسلّل إلى بيتهما.
بصوتٍ متهدّج يعانق الدموع، يخبر المطران خيرالله أنّ أحد العمّال الأجانب دخل منزل العائلة وقتل والديه بوحشيّة… شهد الأطفال على تلك الجريمة النكراء… اتّشحت القلوب بالحزن الشديد…
الخالة أورسلا التي كانت راهبة في دير القديسة رفقا لعبت دورًا جوهريًّا في رعاية الطفل منير وإخوته بعد الفاجعة. حين وقعت الجريمة، أخذتهم إلى كنيسة دير مار يوسف في جربتا حيث وجدوا العزاء.
بين جدران الدير، بدأ الأطفال الأربعة فصلًا جديدًا من حياتهم. هناك، سُكِبَت دموعهم وصرخاتهم في كنف الله الذي بقي الحاضر الأوّل وسط الغياب الموجع.
درب الغفران
يؤكد المطران خيرالله أنّه لمس إرادة الله بعد الحادثة الأليمة.
بين ثنايا ظلام تلك الليلة، لمع نور الإيمان من قلب الخالة الراهبة التي دعت الأطفال إلى الصلاة قائلة: «اسجدوا لنُصلّي… ارفعوا أيديكم إلى السماء! لن نصلّي كثيرًا من أجل أمّكم وأبيكم لأنّهما شهيدان في ديار الربّ، بل سنصلّي من أجل القاتل».
صلّى الأطفال بدموعهم وبكل ما أوتوا من رجاء. ظلّل جوّ القداسة المكان. حين انتهوا من الصلاة، خاطبتهم قائلة: «وصيّتي لكم هي وصيّة يسوع المسيح عينها… الآن صلّيتم وسامحتم. عندما تكبرون وتذكرون القاتل، صلّوا من أجله كي يهديه الربّ!».
يا لقداسة تلك اللحظة العابقة بالغفران!…
كالنزول من جبل التجلّي، عاد الأطفال الأربعة لكتابة الفصل الجديد من حياتهم. عاشوا في ميتم للآباء الكبّوشيين في عبيه-عاليه.
ثم، افترق الإخوة. دخل المطران خيرالله إكليريكيّة مار مارون في غزير في سنّ الثانية عشرة.
لمس المطران خيرالله حضور الربّ الدائم في حياته، وبدأ يفهم المعنى العميق للغفران. تعلّم قراءة الإنجيل والتأمُّل في آياته في سنّ الخامسة عشرة. وبينما كان يقرأ إنجيل متى، الفصل الخامس: «أحبّوا أعداءكم، وصلّوا من أجل مضطهديكم (متى 5: 44)»، تكشّفت له الحكمة الإلهيّة؛ المغفرة دعوة لنكون أبناء الآب السماوي وتلاميذ حقيقيين للمسيح.
كان الغفران أصعب من المحبّة، لكنه المفتاح لسلام داخلي عميق شعر به بعد تلك اللحظة… هذا هو درب الصفح الذي قاده إلى السلام، وألهم حياته، وجعله يكرّس كل لحظة لخدمة الله وشعبه…
كاهن للأبد!
أكمل المطران خيرالله دراسته في غزير. ثم أُرْسِل إلى روما للتعمّق في الفلسفة واللاهوت. بعدها، عاد إلى لبنان ليُرْسَم كاهنًا.
اختار ليلة عيد الصليب، 13 أيلول 1977، يوم رسامته الكهنوتيّة على يد البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير الذي كان نائبًا بطريركيًّا آنذاك. كان هذا اليوم عظيمًا بالنسبة إليه. جميع الحاضرين تذكّروا جريمة مراح الزيات التي هزّت لبنان.
بعد السيامة الكهنوتيّة، عبّر المطران خيرالله عن شكره للربّ الذي منحه علامة عظيمة عن إرادته في تلك الليلة المباركة لأنّ الصليب تحوّل من علامة موت وجريمة إلى علامة انتصار على الشرّ والخطيئة، وأصبح رمزًا للسلام والمحبّة. في هذا السياق، استشهد بالآية الآتية من إنجيل عيد الصليب إذ قال يسوع: «إنّ حبّة الحنطة إن لم تمت في الأرض، تبقى مفردة (يوحنا 12: 24)»، مشيرًا إلى أنّ يسوع اعتبر نفسه حبّة الحنطة.
كما رأى المطران خيرالله في والديه حبّة الحنطة التي ماتت ليكون الأولاد ثمرة من ثمارها. في تلك اللحظة، قرّر أن يكون شعاره في الكهنوت «المغفرة والمصالحة»، مستلهمًا من إرث أبويه اللذين علّماه الإيمان والمسامحة.
في يوم رسامته، جدّد المطران خيرالله المغفرة في قلبه، وقال للمحيطين به: «لم يتركنا الربّ أبدًا. هو دبّر حياتنا بكل تفاصيلها. جميعنا عشنا المغفرة بقلب واحد، وسنستمر في عيشها لكي نتمكّن من الشهادة لحبّة الحنطة، كما استشهد أهلي».
سؤال هزّ كيانه
عام 1977، بدأ المطران خيرالله خدمته الكهنوتيّة في أبرشيّته في البترون، متنقّلًا كل أسبوع في رعيّة من الرعايا. شهد ذلك العام إعلان قداسة مار شربل. حينذاك، نُفِّذَ مشروعٌ مع رابطة الأخويّات في البترون، وهو القيام بجولة برفقة صورة مار شربل، انطلاقًا من عنّايا إلى جميع رعايا الأبرشيّة. رافق المطران خيرالله الصورة في جولاتها، مقيمًا قداسات ومنظّمًا رياضات روحيّة وفعاليّات مع الشبيبة.
عام 1978، في إحدى الرعايا، في أربعاء أيّوب من أسبوع الآلام، نظّم المطران خيرالله سهرةً إنجيليّة عن المغفرة والاعتراف والتوبة. استمر حديثه نحو أربع ساعات، لكنه لم يشعر بأنّ رسالته بلغت قلوب الشبيبة المتأهّبة للقتال، فقرّر مشاركتها شهادته الشخصيّة، ما أثّر فيها وجعل الرسالة تصل إليها.
ثم قطع أحد الشباب الصمت قائلًا: «أنتَ اليوم أصبحت كاهنًا وغفرت. إذا كنت جالسًا في كرسي الاعتراف، وجاء القاتل واعترف لك، طالبًا منك الغفران، ماذا تفعل؟».
ساد الصمت… أجاب المطران خيرالله: «أشكرك على سؤالك لأنّني فهمت الآن من خلاله معنى الغفران! الصفح فيه تحدٍّ. أنا غفرت منذ صغري عن بعد، إذ لم أرَ القاتل أبدًا، لكنك تضعه أمامي الآن. شعوري إنساني، بالطبع ارتجفت أمام هذا الموقف. لكن في النهاية، سأبقى على قناعتي وأعطيه الحلّة». وأضاف: «أصعب تحدٍّ لدينا نحن المسيحيين هو المغفرة لنكون تلاميذ يسوع وأبناء الله. المحبّة ممكنة، أمّا المغفرة فهي صعبة، لكنّها ليست مستحيلة». ودعا الجميع إلى عيش الغفران.
عزاء الأسرة
يشدّد المطران خيرالله على أنّ عزاء العائلة تمثّل في أن الربّ ساعد أفرادها لمتابعة تعليمهم والتفوّق في دراستهم. يقول: «أسّس إخوتي عائلتهم في لبنان والخارج، وعاشوا الإيمان والمحبّة والرجاء والغفران في حياتهم ومع أولادهم. في كل مرة نشارك فيها شهادتنا أمام أولادهم، يتأثرون، لكنهم يعرفون جيّدًا إلى أيّ مدى تجلّى حضور الله في حياتنا، وكيف وجّهتنا العناية الإلهيّة نحو الخير والعطاء والتضحية».
ويردف: «كان حضور الله دائمًا بيننا، وكذلك حضور مريم التي لعبت دور أمّنا في السماء. أمّي مع العذراء في الملكوت. بفضل عناية الربّ وشفاعة مريم ووالدينا، بلغنا ما نحن عليه الآن».
نصيحة الجدّ الكاهن
المطران خيرالله سليل عائلة كهنوتيّة عريقة إذ كان جدّه ووالد جدّه كاهنين، وشقيقة جدّه هي الأخت مريم الخوري، أوّل مبتدئة ترهّبت مع القديسة رفقا في العام 1897 عندما جاءت من دير مار سمعان في أيطو لتؤسّس دير مار يوسف في جربتا. وقد أصبحت لاحقًا رئيسة الدير، إلى جانب راهبات أخريات من العائلة.
عندما التحق بالإكليريكيّة الصغرى في غزير، سأل جدّه الكاهن الذي كان له أثر كبير في قراره باعتناق الكهنوت: «بمَ توصِني؟ هل أختار أن أكون كاهنًا متزوّجًا أم عازبًا؟».
أجابه جدّه: «أنا خوري متزوّج، وأنتم من شجرة عائلتي. أنصحك إذا كنت قادرًا ودعاك الربّ لتكون بتولًا، فافعل. لكن، في أثناء تنشئتك، إذا شعرت بأيّ تغيير في فكرك، لا تتردّد في الزواج، علمًا بأنّ حياة الكاهن المتزوّج مليئة بالتضحيات العظيمة».
حفظ المطران خيرالله وصيّة جدّه دائمًا، ولم تراوده فكرة تغيير مساره. لذلك، اختار البتوليّة عن قناعة. وهو يقدّر خبرة الكهنة المتزوّجين بفضل تجربة جدّه والكهنة الذين عرفهم في الكنيسة المارونيّة. فهو يرى أنّ خدمة الكاهن المتزوّج تُكمِل دعوته الزوجيّة بتربية عائلة صغيرة في حين أنّ دعوته الكهنوتيّة تحتضن عائلات كبيرة ليصبح أبًا للرعايا. بالنسبة إليه، لا فرق بين خدمة الكاهن المتزوّج والأعزب، فهذا الأمر خيار شخصي حسب دعوة كل فرد.
من كاهن إلى أسقف
لطالما أبدى المطران خيرالله شكره للربّ على نعمة الكهنوت التي مكّنته من الخدمة بنشاط وعطاء وتواضع. كما شكر الكنيسة التي وفّرت له الفرصة لاستكمال دراسته في روما والتخصّص في فرنسا.
بعد عودته إلى لبنان، كرّس ذاته بالكامل للخدمة، متأهّبًا لتلبية نداء الربّ. استأنف عمله في أبرشيّته في البترون، معترفًا بفضل الكنيسة عليه إذ اعتبر دورها في حياته نعمة تلت الدعوة الإلهيّة إلى اعتناق الكهنوت. فقد أتاحت له فرصة الخدمة حيثما دعت الحاجة، ومتى طُلِبَ منه ذلك بروح التفاني.
هديّة شفيع والده
لم يكن المطران خيرالله يعلم مسبقًا أنّه سينال الدرجة الأسقفيّة. لمطران البترون السابق بولس إميل سعادة فضل كبير في مرافقته. عقب استقالته عند بلوغه 75 عامًا، انتخب مجلس المطارنة المطران خيرالله ليخلفه لأنّه كان نائبًا عامًا في أبرشيّة البترون.
أُعلن انتخابه يوم 17 كانون الثاني 2012، في عيد القديس أنطونيوس الكبير، شفيع والده، فشكّل هذا التاريخ علامة واضحة على حضور الربّ وعنايته. أمّا رسامته الأسقفيّة، فتمّت يوم السبت 25 شباط 2012، على يد البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. في اليوم التالي، احتفل بالقداس وتسلّم المهمات الجديدة في الأبرشيّة.
كان تاريخ سيامته الأسقفيّة يوم شكر لله. وفي كلمته التي تلاها في بكركي، ذكر والديه وأصحاب الفضل عليه. كبرت المسؤوليّة الملقاة على عاتقه، بخاصة في ظل الظروف الصعبة التي مرّت بها البلاد.
سنوات زاخرة بالمحبّة
يختصر المطران خيرالله السنوات الممتدّة من الانتخاب الأسقفي حتى الساعة بأنّها مسار زاخر بالعطاء والخدمة والتضحية، ومُتوّج بالمحبّة والمغفرة. معرفته الرعايا في أبرشيّة البترون والكهنة والحركات الرسوليّة واللجان شكّلت جسرًا سهّل خدمته وجعلته أقرب إلى الناس. وهو يسأل الله يوميًّا أن يجدّد النعمة في قلبه ليبقى قريبًا من شعبه، ويهب ذاته من أجل خدمته.
رفقا الشفيعة
وجد المطران خيرالله في القديسة رفقا شفيعةً وجارة. اختار صورتها لتزيّن عصا الرعاية الأسقفيّة المصنوعة من خشب الزيتون من جهة، وأضاف صورة مار مارون من جهة أخرى «لأنّه أبونا الروحي وملهمنا ومؤسّس الروحانيّة النسكيّة التي تبنّتها الكنيسة المارونيّة».
شكرٌ متواصل لله
يختم المطران خيرالله مشاركة «قلم غار» شهادة حياته بالقول: «أشكر الربّ على النعمة التي منحني إيّاها، والمتمثّلة في تجلّي حضوره يوميًّا في حياتي».
ويرفع الصلاة التي ردّدها عندما كان كاهنًا، وما زال يجدّد تلاوتها الآن، وهي تعبّر عن عمق الإيمان والتسليم لمشيئة الله: «وداعًا يا مذبح الله، وليكن لي القربان الذي تناولته عليك لمغفرة الذنوب وترك الخطايا وللوقوف أمام باب المسيح بلا خجل وبلا وجل. ولا أدري إذا كنت سأعود لأقرّب عليك قربانًا آخر أو لا. اللهم احرسني واحفظ كنيستك المقدّسة سبيلًا للهداية والخلاص. آمين».