الأب بولس القزي
بصفتي طالب دعوى تقديس البطريرك إسطفان الدويهي، أسرد لكم وقائع مسار التطويب، وكلامي سينحصر بين عامَي 2000 و2024:
بعد اختياري طالبًا لدعوى التقديس في العام 2000، واجهتني في البدايات صعوباتٌ كثيرة، منها أنّها دعوى تاريخيّة عمرها أكثر من 300 سنة، ومنها أنّها لبطريرك لم يضيّع دقيقة واحدة من حياته، إذ ملأها كلّها في كتابات ومخطوطات ومؤلفات متعدّدة، علاوة على رسالته الكهنوتيّة والعلميّة والرعائيّة والبطريركيّة، وفي تجديدٍ دائمٍ يصعب جمع ما عمل وكتب وعاش.
لكنها كانت علامات أزمنة متعدّدة مع وصول رسالة البطريرك المثلث الرحمات مار نصر الله بطرس صفير، يبلغني فيها قرار السينودس الماروني، وكذلك الاتصال الهاتفي المباشر من البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، بصفته يومها رئيس اللجنة الأسقفيّة، ما جعلني أفكّر بأنّها ليست دعوى عاديّة بل هي استثنائيّة، وكذلك في الوقت عينه وصول صاحبة الشفاء الخارق لعينها كما تمّ شفاء عيني البطريرك الدويهي في روما.
بطولة فضائل إلهيّة وإنسانيّة
بدأت العمل الجدّي والمكثَّف، وقد تركّز في هذه المرحلة الأولى مع اللجان المختصّة اللاهوتيّة والقانونيّة والتاريخيّة ومحكمة التحقيق الكنسيّة على الصعيد الأبرشي على جمع كلّ ما يتّصل بحياة البطريرك ومؤلفاته وفضائله، بما فيها من أعاجيب وأعمالٍ مميّزة قام بها وحقّقها في حياته وبعد رقاده الأخير، والتي جعلت منه قديسًا بشهادة عددٍ كبيرٍ جدًّا من الناس الذين عايشوه وتناقلوا أخباره ثمّ نقلوها لأجيالٍ بعدهم، وبشهادة أشخاص هم اليوم أحياء طلبوا شفاعته، فاستجاب. وقد نقلوا إلينا ما حصل معهم. وبعدما عاينت اللجان المحلّية التي أشرنا إليها كلّ هذه المعطيات، ثم فرزتها وحلَّلتها وناقشتها ودرستها دراسةً معمّقة مجرّدة، وبعدما تكوّن لديها ملفٌّ يحتوي على كلّ الشهادات في فضائل البطريرك، حَمَلْتُه شخصيًّا إلى روما، وتحديدًا إلى اللجان المعنيّة في مجمع القديسين التي أعادت درس محتواه، ودوّنت ملاحظاتها ورأيها النهائي. ثم رَفَعَتْه إلى الحبر الأعظم البابا بنديكتوس السادس عشر الذي اعتبر أنّ ما حققه وما عاشه البطريرك من بطولة فضائل إلهيّة وإنسانيّة ومن شهرة قداسة، تخوّله أن يكون مكرّمًا، فأعلن ذلك في 3 تمّوز 2008. وبهذا الإعلان، تكون المرحلة الأولى من رحلة القداسة قد انتهت، لننتقل بعدها إلى محطّة ثانية هي رَفْعُه طوباويًّا على مذابح الكنيسة.
نحو الطوباويّة
للعبور إلى الطوباويّة، إنّ الكنيسة تحتاج إلى تدخّل من الله يثبت قرارها وهو أعجوبة شفاء خارق تثبت قداسة صاحب الدعوى. ومن جديدٍ، عادت اللجان المحلّية في لبنان إلى البحث عن أعجوبةٍ بإمكانها أن تُمرِّر صاحب الدعوى إلى الطوباويّة.
وظلّ العمل جاريًا منذ 2008 إلى أن سجّلت اللجنة أعجوبة الشفاء التي أجراها الله على يد البطريرك المكرّم لروزيت زخيا كرم في 7 أيلول 2013 من مرض عضال كاد يودي بحياتها…
وبالفعل، قد اجتمعت محكمة التحقيق الكنسيّة واللجان المحلّية بخصوص هذه الأعجوبة مرّات عدّة، وحقّقت فيها تحقيقًا طبّيًا مستندةً إلى فحوصاتٍ مخبريّة دقيقة. كما استمعت مرات ومرات إلى عددٍ كبير من الشهود والأطبّاء المعالجين لروزيت وأطبّاء مختصين، إلى أن تبيّن لنا أنّ ما حصل لروزيت زخيا كرم (57 عامًا) من شفاءٍ يندرج في إطار الأعجوبة وهو ليس شفاءً طبّيًا مألوفًا. وعليه، نُقِلَ ملفّ الأعجوبة إلى مجمع القديسين في روما الذي أعاد الدرس والتمحيص حتى تأكد من حقيقة هذه الأعجوبة التي ثبّتها البابا فرنسيس في 14 آذار 2024، معلنًا أنّ البطريرك المكرّم يستحقّ أن يُرْفَعَ على مذابح الكنيسة المارونيّة طوباويًّا جديدًا على لائحة الطوباويين. وقد اختار الثاني من شهر آب 2024 موعدًا للاحتفال الرسمي بهذا الإعلان، كما اختار الصرح البطريركي في بكركي مكانًا له.
مبارك للبنان وللشرق!
ختامًا، لا يسعنا سوى أن نشكر الله وسيّدة قنّوبين على هذه النعمة، والشكر موصولٌ إلى جميع الذين تعبوا وساهموا كي تبلغ هذه الدعوى غايتها السامية، من لجانٍ بطريركيّة وأسقفيّة وكهنوتيّة ولاهوتيّة وشعبيّة وفاتيكانيّة أيضًا… وكلّ من كان لهُ إسهامٌ صغيرٌ أو كبيرٌ من قريب أو من بعيد.
وأخيرًا، من خلال تطويب البطريرك إسطفان الدويهي، الطوباوي العتيد، ألا يدعونا الربّ إلى التركيز على أهمّية وادي قنّوبين، وادي قاديشا، روحانيّة الحبساء والنسّاك وتاريخ هذا الوادي وما حصل فيه خلال التاريخ من اضطهاد وظلم واستشهاد دائم وعيش جمعة عظيمة متواصلة في تاريخ شعبنا الذي دفع دمًا في سبيل حرّيته وله أُعْطِيَ مجد لبنان…
مبارك لنا جميعًا هذا الطوباوي الجديد. مبارك للبنان وللشرق ومبارك لمحبّي البطريرك في العالم.
في خلال أعماله الخارقة وكتاباته ومؤلفاته وبطريركيّته ونظرته الثاقبة إلى مستقبل واعد، أشاح الدويهي الظلم والجهل عن شعبه وكنيسته والشرق، فكان أن شعّ من كتبه منارة أقداس وتاريخ أزمنة وردّ التهم عن كنيسته إذ كان منارة علم وقداسة للرهبانيّات وللكنائس وللبنان في كلّ الأزمنة.
أيها الطوباوي الجديد، صلِّ لأجلنا!