البابا فرنسيس
اليوم، نريد أن نجمع بعض الشذرات من عقيدة الروح القدس التي تطوّرت في التقليد اللاتيني لنرى كيف تضيء هذه العقيدة كل الحياة المسيحيّة، وخاصّة سرّ الزواج.
المُكَوِّن الرئيسي لهذه العقيدة هو القديس أغسطينوس. ينطلق من الوحي الذي يقول: «الله محبّة» (1 يوحنا 4: 8). والمحبّة تفترض وجود شخص يُحِبّ، وشخص يُحَبّ، والمحبّة نفسها التي توحِّد بينهما. الآب هو، في الثالوث، الذي يُحِبّ، وهو ينبوع وأصل كل شيء. والابن هو المحبوب، والروح القدس هو المحبّة التي توحّدهما. إله المسيحيين إذن هو إله «واحد» لكنّه ليس «متوحِّدًا». بل هو وحدة شركة ومحبّة. على هذا الأساس، اقترح أحدٌ أن نسمّي الروح القدس، لا «الشخص الثالث» بصيغة المفرد في الثالوث، بل «الشخص الأوّل بصيغة الجمع». بكلمات أخرى، هو الـ«نحن» الإلهي بين الآب والابن، وهو الرباط الذي يوحِّد بين الأشخاص المختلفين، وهو مبدأ الوحدة في الكنيسة التي هي في الأساس «جسد واحد» مُكَوَّن من أشخاص كثيرين.
أودّ اليوم أن أتأمّل معكم بشكل خاص في ما يقوله الروح القدس للعائلة. مثلًا، ما علاقة الروح القدس بالزواج؟ علاقة قويّة، ربما الأهمّ، وسأحاول أن أشرح السبب! الزواج المسيحي هو سرّ عطاء الذات، الواحد يعطي ذاته للآخر، الرجل والمرأة كل منهما للآخر. هذا ما أراده الخالق عندما «خَلَقَ اللهُ آدَمَ على صُورَتِه […]، ذَكَرًا وأُنْثى خَلَقَهم» (تكوين 1: 27). ومن هنا، فإنّ الزوجين هما أوّل تجسيد وأوّل وأبسط تحقيق لشركة المحبّة التي هي الثالوث الأقدس.
يجب أن يُكَوِّن الزوجان أيضًا «الشخص الأوّل بصيغة الجمع»، أي «نحن». فهما الواحد أمام الآخر «أنا» و«أنت»، وهما معًا أمام العالم، بما فيه أبناؤهم، «نحن». ما أجمل أن نسمع أُمًّا تقول لأبنائها: «أَنا وأَبوكَ…»، كما قالت مريم ليسوع عندما وجدته في الهيكل وهو في الثانية عشرة من عمره يعلّم العلماء (راجع لوقا 2: 48)، وأن نسمع أبًا يقول: «أنا وأُمُّكَ»، كما لو كانا شخصًا واحدًا. كم يحتاج البنون لهذه الوحدة بين الوالدَيْن -الأب والأمّ معًا-، وكم يتألّمون عندما تغيب! كم يتألّم الأبناء من الوالدَيْن اللذين ينفصلان، كم يتألّمون!
لكن، لتحقيق هذه الدعوة، الزواج بحاجة إلى تأييد من الذي هو العطاء، بل هو العطاء بامتياز. حيث يحلُّ الروح القدس، تتجدّد القدرة على العطاء. أكد بعض آباء الكنيسة أنّ الروح القدس، بكونه العطاء المتبادل بين الآب والابن في الثالوث، هو أيضًا سبب الفرح الذي يسود بينهما. ولم يخَفْ آباء الكنيسة، وهم يتكلّمون على الروح القدس، أن يستخدموا صورة من العلامات الخاصّة بالحياة الزوجيّة، مثل القبلة والعناق.
لم يَقُلْ أحدٌ إنّ هذه الوحدة هي هدفٌ سهل، خاصّة في عالم اليوم، لكن هذه هي حقيقة الأمور التي فكّر فيها الخالق، ولذلك، هي في طبيعتها. بالطبع، قد يبدو من الأسهل والأسرع أن نبني على الرمال بدل أن نبني على الصخر، لكن المَثَلَ في تعليم يسوع يقول لنا ما هي النتيجة (راجع متى 7: 24-27)…
يجب على أزواجٍ كثيرين أن يكرّروا ما قالته مريم ليسوع في قانا الجليل: «ليس عندهم خمر» (يوحنا 2: 3). الروح القدس هو الذي يستمرّ في العمل، على المستوى الروحي، المعجزة التي صنعها يسوع في تلك المناسبة، أي تحويل ماء العادة إلى فرح جديد في أن نكون معًا. ليس ذلك وهمًا تقويًّا: بل هو ما صنعه الروح القدس في زواجات كثيرة، عندما يقرّر الزوجان أن يبتهلا إليه.
لذلك، لن يكون سيّئًا، إلى جانب المعلومات القانونيّة والنفسيّة والأخلاقيّة التي تُعطى في تحضير الخُطَّاب للزواج، أن يتمّ التعمّق في هذا التحضير «الروحي». يقول المَثَلُ الإيطالي: «لا تضع إصبعك بين الزوج والزوجة». لكن، هناك «إصبع» يجب أن يوضع بين الزوج والزوجة، وهو بالتحديد «إصبع الله»، أي الروح القدس!
المصدر: فاتيكان نيوز
مقتطفات من كلمة البابا فرنسيس في المقابلة العامّة الأسبوعيّة (23 تشرين الأوّل 2024)