-بتصرّف-
طوال 39 عامًا من حياته الكهنوتيّة، لم ينفك القديس شربل مخلوف عن الاحتفال بقدّاسه عند الساعة الحادية عشرة، جاعلًا منه محور نهاره ومرتكز حياته. قبله، كان يقضي الوقت بالاستعداد، وبعده بالشكران. مكانه المفضّل أمام بيت القربان الأقدس حيث كان يبقى مستغرقًا في تأمّل عميق، مناجيًا يسوع في سرّه الأعظم.
في تساعية الميلاد، عند رفع كأس القربان في خلال قدّاسه الأخير، قرع بابه ملاك الموت. زاره في أحرج لحظات العمر، في وقت كان يتلو فيه أروع ابتهال يرفعه إلى الآب، وتابع ترداده على فراش الموت: “يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك. فاقبل من مات عني واغفر لي. هذا القربان تقبّله من يدي، وارْضَ عني، ولا تذكر خطايا اقترفتها أمام عظمتك”.
“في 16 كانون الأوّل 1898 عند الساعة الحادية عشرة، كان شربل بأعوامه السبعين، جاثيًا في الكنيسة منذ ساعات. ها هو ينهض مرتعشًا من الصقيع. ريح الكوانين تعصف، والهواء يقذف الزمهرير من نافذة المحبسة وبابيها الخاويين. أعضاء الحبيس ترتجف حتى العظام. يهمّ بارتداء حلّة القداس، غارقًا في صلاته العقليّة.
إلى المذبح يصعد كما المسيح الى الجلجلة. عقله وقلبه وحواسه، كل كيانه يغمره شعور واحد: الفداء بالصليب، الفداء الذي يسهم فيه بسرّ القداس. في مدى عينيه وملء روحه فكرة أنضجتها أربعون سنة في الكهنوت: ذبيحة الجلجلة تتجدّد، تستمرّ، تتمدّد في ذبيحة القداس، فتشمل جميع أعضاء الكنيسة في كل زمان ومكان” (كتاب شربل إنسان سكران بالله).
سيشترك شربل مرّة أخرى في عمل المسيح الفدائي. يصعد بقلب مضطرم لكي يموت مع المسيح القربان. عند التقديس، يمسك خبز التقدمة بصعوبة لشدّة الصقيع. فجأة، يشعر بجسده يتجمّد حتى مفرق الروح والعظام. لاحظ رفيقه، الأب مكاريوس، عجزه عن إكمال قدّاسه، فأعانه على ترك المذبح ليرتاح قليلًا. إنها السقطة الأولى على طريق الجلجلة!
بعد قليل، يعود الحبيس إلى المذبح ويتابع القدّاس. يلفظ الكلام الجوهري، ويرفع الكأس يعلوه القربان، وهو يتلو: “يا أبا الحقّ”… لكن الداء يعتريه مجدّدًا بقوّة، فيعجزه عن المتابعة. لبث كأنه مسمّر في جموده، معلّقًا عينيه في أسرار الفادي. تقدّم الأب مكاريوس محاولًا نزع الكأس والقربان من يديه، فتكمّشتا بهما. “اتركلي الكاس، اعطيني القربان”، قال الأب مكاريوس.
بذل جهده لأخذهما وإنزاله عن المذبح واقتياده إلى قلّيّته. هذه سقطة أخرى تحت الصليب: لقد أصيب الحبيس بالفالج. ها هو طوال ثمانية أيّام، يقاسي آلام الاحتضار هادئًا ساكنًا على الرغم من الأوجاع. أُحضر له حساء معدّ بسمن لتقويته، وما إن اشتمّ رائحة مكوّناته التي حرم نفسه منها طوال حياته الرهبانيّة حتى ردّ القصعة بلطف إذ أراد أن يظلّ أمينًا لقانونه حتى الموت.
في نزاعه، لم يبرح شربل، ما دام قادرًا على تحريك شفتيه ولسانه، يتابع قدّاسه. إنه يردّد الصلاة التي لم يستطع أن يكملها في القدّاس: “يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك”… عن أيّ ذبيحة يعبّر الكلام؟ ذبيحة المسيح مصلوبًا أم ذبيحة شربل منازعًا؟ ليس بالحقيقة سوى ذبيحة واحدة هي ذبيحة يسوع مائتًا على الصليب! إن آلام البشر عبر جميع الأجيال لا معنى لها إلا باتحادها بهذه الذبيحة. مع هذه الكلمات، طارت روح شربل، حرّة طليقة عائدة إلى ديار الآب. كان ذلك عشيّة عيد الميلاد في 24 كانون الأوّل 1898.
اشترك في قدّاس الأب شربل الأخير، فضلًا عن رفيقه الأب مكاريوس، بعض النساء من خلال شبكة باب الكنيسة الخارجي. أما وفاته، فقد حضرها الأب مكاريوس، والأخ بطرس المشمشاني، والخوري مخايل أبي رميا.
حُمِلَ جثمان شربل إلى كنيسة المحبسة. شقّ بعض رهبان الدير طريقًا في الثلج، وراحوا يصلّون حوله. كانوا يتناوبون السهر عليه، ويقولون: يا له من برد قارس! نعجز عن البقاء في الكنيسة ليلة واحدة من شدّة الصقيع، فكيف استطاع الحبيس أن يعيش 23 عامًا فيها، ساجدًا لا تدفئه نار ولا يلبس قطعة صوف؟!
لم يكن موت شربل النهاية بل ولادة جديدة وعبورًا إلى الحياة الأبديّة ليشعل الأرض بقداسته، ناثرًا المعجزات نعمًا إلهيّة وبركات في كل أرجاء المعمورة.