غيتا مارون
زياد الرموز، دكتور في إدارة الأعمال، ومدير مالي في شركة تعهّدات، وملتزم في الكنيسة، وناشط اجتماعي على مدى أكثر من 26 عامًا، يعشق العمل التطوّعي، يخبر “قلم غار” مسيرة مليئة بالعطاء ومحبّة القريب.
شرارة عشق العمل التطوّعي
“شعرت، منذ ولادتي، بأن العناية الإلهيّة ترافقني، ربما بفضل التربية أو العائلة أو المحبّة التي زرعها أهلي في قلبي وأثمرت عندما كبرت…
ألمس حضور الربّ في كل خطوة أقوم بها، ولا يُغلق بابٌ في وجهي إلا وأشكر الله لأنه أبعد عنّي آثار أيّ عاصفة تقترب منّي، ولأنني أعرف أن بابًا جديدًا أفضل سيُفتح أمامي”، يخبر زياد.
“إن قراءاتي وتأمّلاتي في حياة الأمّ تريزا جعلتني أعشق العمل التطوّعي لأنني كنت أشعر بأنني ضعيف، فأنا لست غنيًّا، ولا أمتلك قدرات جبّارة، كي أحدث تغييرًا كبيرًا…
عندما كنت أرى الآخرين متضايقين، كان الحزن يتملّكني… بعد غوصي في التأمّل في رسالة أمّ الفقراء البسيطة، أدركت أن المطلوب منّي ليس مساعدة الجميع، وإنما مساندة أقرب الناس إليّ، وتقديم الأمور البسيطة لهم بحبّ كبير…
اكتسبت ثقتي الكبيرة بنفسي من خلال علاقتي بالربّ والعائلة المقدّسة وأهلي، فأصبحت إنسانًا واقعيًّا وليس مثاليًّا؛ الواقعيّة تعني معرفة أن كل الأمور في هذه الحياة فانية، وكل حالة يمرّ بها الإنسان زائلة، مثل الحزن والفرح… وبالتالي، يجب عليه أن يحاول الاستفادة منها وإفادة الآخرين في الوقت عينه”.
هكذا بدأ التحدّي الكبير…
ويقول زياد: “شعرت بأن الآخرين بحاجة إلى أعمال الرحمة لأنها تشفي النفوس، وحاولت أن أكتشف هذا الطريق مع الربّ يسوع، وبدأت بخدمة الأقرب إليّ… من ثم، كبرت الخطوة، وانتقلت من بيت إلى آخر، فشعرتُ بسعادة لا توصف، ورغبت في أن يختبر الأشخاص الذين ألتقي بهم الفرح الذي ملأ كياني.
أستمدّ فرحي من صلواتي وقراءاتي وتجسيد إيماني إذ أعيش قدّاسي الذي لم يكن يومًا مجرّد مناسبة رسميّة، وأقول للربّ: لتكن مشيئتك!
في مسيرتي الروحيّة، حاولت أن أصغي إلى كلمات الأمّ تريزا القائلة: “من الجميل أن نتحدّث عن الفقراء، لكن الأجمل التحدّث إليهم”، وبدأ التحدّي.
كانت مبادرة فرديّة، وانطلقت رسالتي في لبنان: بدأت بتأمين حاجيّات العائلات الفقيرة في النبعة وبرج حمّود. ومن ثم، انتقلت “عدوى” الرسالة إلى أفراد عائلتي، وزملاء العمل الذين قدّموا المساعدة الضروريّة، واخترت وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق الأهداف النبيلة التي وضعناها نصب أعيننا وخلق شبكة تواصل فعّالة تغرف من روحانيّة الأمّ تريزا… تعاون أكثر من ألف شخص معنا، وقدّموا الحاجيات والمواد الغذائيّة اللازمة، وقاموا بترميم بعض المنازل الأكثر فقرًا”…
لم أتقبّل ما شاهدته في مركز الأمّ تريزا
ويخبر زياد: “انضمّ شباب رعايا عديدة إلى الفريق المتطوّع، وكانت الخطوة الأولى والتحدّي الأكبر أننا قمنا بإنشاء إرساليّة من متطوّعين إلى أثيوبيا، مع الأب طوني كعدي، فزرنا مركز الأمّ تريزا في أديس أبابا، والذي يضمّ 1300 مريض (مرضى السلّ والسيدا والسرطان والطاعون…).
عندما دخلت المركز، لم أتقبّل ما شاهدته للوهلة الأولى، فشعرت بأنني عاجز عن عيش الرسالة؛ كانت صدمة كبيرة بالنسبة إليّ، على الرغم من أنني مَن قمت بتشجيع شباب الرعايا على السفر…
كانت 13 راهبة يخدمن 1300 مريض، والبسمة تعلو وجوههن، فسألت إحدى الراهبات: ما سرّ قدرتك على الاستمرار في هذه الخدمة الصعبة بنشاط؟ أجابتني: إن الإنسان يخاف من أمرَيْن في الحياة: المرض والموت، ونحن نختبرهما كل يوم، فلا تخف منهما، بل واجههما! إنه يسوع المتنكّر، فاخدمه”…
المصلوب سرّ قوّتي
ويتابع زياد: “استمددت قوّة عظيمة من راهبات الأمّ تريزا، ومن سرّ قوّتهن: التأمّل اليومي بالمصلوب لمدّة نصف ساعة، وقد كُتبت إلى جانبه عبارة مهمّة جدًّا: أنا عطشان، وهي الجملة التي قالها فقير متسوّل للأمّ تريزا، عندما كانت تستقلّ القطار، ولم تتوقّف لتسقيه… فكانت هذه العبارة سبب دعوتها، وآمنت برسالتها التي تمثّلت بالعيش مع أفقر الفقراء.
تأمّلت المصلوب مع الراهبات، وطلبت القوّة من الربّ، فزالت العوائق… تعلّقنا بهن، أحببناهن، ورأينا معاناة المرضى، وافتقارهم إلى كل الأساسيّات، ولا سيّما الماء، فكنا نجد صعوبة كبيرة في الحصول على كميّات بسيطة لمسح أوجه المرضى بالمنديل أو حتى غسل شعرهم… والغريب أنهم يشعرون بالامتنان، ويتحلّون بإيمان كبير…
رأينا أن الألم الذي عانينا منه في بلدنا لا يوازي الألم الكبير في هذا المركز؛ كنا نُخرج الدود من أجسام المرضى، وكان جلدهم متشقّقًا ولا دواء لهم… وأثار صمتهم استغرابي، فسألت إحدى الراهبات: كيف يتألمون بصمت؟ هل أعطيتهم الأدوية؟ أجابتني: لم أعطهم أيّ دواء، لكنهم عندما يتألمون ويشتدّ عليهم المرض، يشعرون بأن ألمهم نعمة كبيرة، وبأنهم يشاركون الربّ آلامه”.
السماء تمطر المشاريع الخيّرة
ويضيف زياد: “اعتقدنا أننا ذهبنا لنخدم الآخرين، لكننا اكتشفنا بعد عودتنا إلى وطننا أننا محمّلون بالخميرة الطيّبة، هذا الحبّ الإلهي الفائق الوصف… العمل التطوّعي يرافق الإنسان طوال حياته، ويمدّه بالقوّة، في كل لحظة يهيمن عليه الإحباط، عليه التفكير باللحظات التي منح فيها الفرح للمحيطين به، وبأخيه الإنسان الذي تخطّى ألمه على الرغم من وضعه المزري.
لقد أعطتني هذه المرحلة الصعبة القوّة، وقام كل متطوّع في الإرساليّة بنشر هذه الرسالة في محيطه، فشجّع غيره على الخدمة والتطوّع…
زاد عدد الشباب المتطوّعين، وقدّموا الدعم على مدار السنة، وقصدنا أماكن كثيرة، وانضمّت إلى فريقنا مجموعة من المتخصّصين وعلماء الاجتماع والنفس والكهنة، وبذلنا قصارى جهدنا من أجل تقديم الدعم اللازم على الصعد كافة”…
أشكره على نبضات قلبي
ويرفع زياد الشكر إلى الربّ قائلًا: “أشكره على كل نبضات قلبي، لأنه ما زال واثقًا فيّ فهو يريدني أن أقوم بأعمال أكثر روعة من المشاريع السابقة، وأتمنّى ألا أخيّب ظنّه، وأطلب منه السماح إذا ما خذلته في الماضي… أشكره على أهلي وأصدقائي، وكل من يضع ثقته فيّ… وأدعو الجميع إلى تقبّل الآخرين مستشهدًا بكلمات الأمّ تريزا: “إذا أصدرت الأحكام على البشر لن تجد الوقت لتحبّهم”.