الأب جورج بريدي
ما قد لا تعرفونه عن القديسة تريز الطفل يسوع: حساسيّتها المفرطة، تعلّقها بالأشخاص، ملؤها بالضعف.
تريز، العملاقة في القداسة، المعلّمة في الكنيسة والمدرسة في الحبّ؛ تريز، القديسة التي لمست قلوبًا كثيرة، وأمطرت ورود النعم من السماء، قد لا يعرف الكثيرون أنّ حياتها على الأرض كانت جهادًا مستمرًّا ومحاولات شاقّة لتخطّي أزمات تلو الأخرى، وأكثرها نفسيّة.
فهي التي يصنّفها كثيرون من أطبّاء النفس الذين درسوا كتاباتها وتفاصيل قصّة حياتها بأنّها كانت تحمل في طيّات حياتها الداخليّة النفسيّة الكثير من الاضطرابات والمشاكل والأزمات. وهي التي لم تنكر أو تُخْفِ هذا الأمر، بل عبّرت عنه مرارًا في سرد قصّة حياتها، ووصفت نفسها بأنّها تملك حساسيّة مفرطة جعلتها تعاني لسنواتٍ عدّة. كل ذلك سنفهم معناه وأهمّيته لاحقًا.
تريز التي كانت تحبّ الأشخاص لدرجة التملّك، عاشت معاناة حقيقيّة من جرّاء هذا التعلّق النفسي بالآخرين. فما تلبث أن تحبّ وتتعلّق بأحد حتى تفقده لأسبابٍ متعدّدة كالموت أو الابتعاد أو دخول الدير… وتبقى وحيدة.
مع مرور الوقت، ومع نضجها الروحي الذي أدركته وهي في سنّ مبكرة، عرفت تريز أنّه لا يوجد أيّ مخلوقٍ على الأرض، مهما كان قريبًا منها، يمكنه أن يُشبِع رغبتها القويّة بالحبّ ويملأ هذا المكان الفارغ في قلبها إلا اللّه وحده. فعرفت كيف توجّه كل طاقة حبّها إلى الذي يحبّ بلا حدود أو نهاية، ولا يرحل أو يتركنا، ولا يخذلنا أو يجرحنا؛ فعاشت في ملء الحبّ وفي قلب الحبّ بذاته.
جنون قداسة تريز أنّها لم تفتخر يومًا بالعظائم، ولم تسعَ كي تكون كاملة أو عظيمة أو صاحبة معجزات، بل افتخرت بضعفها وأوهانها وآلامها ومشقّاتها تمامًا على مثال القديس بولس الذي افتخر هو أيضًا بأوهانه، واكتشف القوّة التي تكمن في الضعف، وكفاية النعمة بدل انتزاع الشوكة من جسده (الرسالة الثانية إلى أهل قورنتس).
نعتقد أحيانًا أننا لكي نبلغ القداسة علينا أن نكون كاملين في كل شيء، لا نقص فينا، لا ضعف في أجسادنا ونفوسنا؛
نعتقد أننا لكي «يرضى اللّه عنّا» علينا أن نصل إلى تحقيق صورة معيّنة عن ذاتنا، نريدها نحن، يريدها أهلنا لنا، يريدها مجتمعنا، ولكن لا يريدها اللّه؛
نعتقد أنّ علينا القيام بكل ما بإمكاننا، والغوص في الدراسات والتحليلات النفسيّة لكي نلغي من كياننا الإنساني كل أشكال الضعف التي تسبّب لنا أزماتٍ عدّة، وننسى أنّنا قد نكون بذلك نلغي «مفهوم الصليب» من حياتنا.
جاءت تريز بضعفها، بمثَلِها، بواقعيّة حياتها، تدمّر كل تلك المفاهيم الخاطئة وتُعلِن بجنون قداستها أنّ نعمة القداسة والاتّحاد باللّه لا يعوقها أيّ اضطراب أو مشكلة أو ضعف أو نقص أو أيّ عائقٍ مهما كان، بل على العكس، هي أبوابٌ رحومة تفتح لنا السبيل الحقيقي لإدراك الحبّ الإلهي الذي تبحث عنه قلوبنا الجريحة.
فإن تركنا أحد، أو خذلنا، أو جرحنا، أو لم يُقدِّر حبَّنا أو اتُّهِمنا بأنّنا حسّاسون، مفرطون في المحبّة، ولا نمتلك المقوّمات النفسيّة للأقوياء والعظماء، فها هي تريز أمامنا، صديقة وفيّة، ومثالٌ رائع للقداسة في الضعف، تدعونا لأن نتبع خطواتها بـ«الثقة باللّه»، وأن «نحتمل ذواتنا مع كل نقائصنا»، وأن ندع «حبّ يسوع وحده يجعلنا نتغلّب على كل الصعوبات»، وأن نعرف أنّ القداسة ليست كما نريدها نحن، ولا كما يريدها الآخرون لنا، بل هي «تكمن فقط في إرادة اللّه، وأن نكون فقط ما يريدنا الله أن نكونه».