“إن محبّة المسيح هي التي حرّرتنا، وما زالت المحبّة هي التي تحرّرنا من العبوديّة الأسوأ، عبوديّة الأنا”. هذا ما قاله البابا فرنسيس في مقابلته العامة مع المؤمنين في قاعة بولس السادس في الفاتيكان.
واستهلّ الأب الأقدس تعليمه بالقول: يدخلنا الرسول بولس برسالته إلى أهل غلاطية تدريجيًّا إلى حداثة الإيمان العظيمة. إنها حداثة عظيمة حقًّا لأنها لا تجدّد بعض جوانب الحياة فحسب، بل تنقلنا إلى تلك “الحياة الجديدة” التي نلناها مع المعموديّة. هناك انسكبت علينا العطيّة الأعظم وهي أن نكون أبناء الله إذ ولدنا مُجدّدًا من المسيح، انتقلنا من تديّن يقوم على قواعد إيمان حيّ، محوره في الشركة مع الله والإخوة. لقد انتقلنا من عبوديّة الخوف والخطيئة إلى حرّيّة أبناء الله.
وقال البابا فرنسيس: لنحاول اليوم أن نفهم بشكل أفضل جوهر هذه الحرّيّة بالنسبة إلى الرسول بولس الذي يؤكد أنها أكثر من مجرّد “فرصة للجسد”: وبالتالي، فالحرّيّة ليست مجرّد حياة متحرّرة، بحسب الجسد أو وفقًا للغريزة، الرغبات الفرديّة ودوافع المرء الأنانيّة، بل على العكس، تقودنا حرّيّة يسوع إلى أن نكون “في خدمة بعضنا البعض”. بعبارة أخرى، يتمّ التعبير عن الحرّيّة الحقيقيّة بشكل كامل في المحبّة. مرّة أخرى، نجد أنفسنا إزاء مفارقة الإنجيل: نحن أحرار في الخدمة؛ نجد أنفسنا بشكل كامل بقدر ما نبذل ذواتنا لأننا نمتلك الحياة فقط إذا فقدناها.
وأضاف الحبر الأعظم: كيف يمكننا أن نفسّر هذا التناقض؟ إن إجابة الرسول هي بسيطة بقدر ما هي مُلزِمة: “بفضل المحبّة”. إن محبّة المسيح هي التي حرّرتنا، وما زالت المحبّة هي التي تحرّرنا من العبوديّة الأسوأ، عبوديّة الأنا. لذلك، تنمو الحرّيّة بالحبّ. لكن لنتنبه: لا بحبّ المسلسلات، وليس بالعاطفة التي تبحث ببساطة عمّا يطيب لنا وما يعجبنا، وإنما بالحبّ الذي نراه في المسيح، المحبّة: هذا هو حقًّا الحبّ الحرّ والمُحرِّر. إنها المحبّة التي تتألق في الخدمة المجانيّة، على مثال خدمة يسوع، الذي يغسل أقدام تلاميذه، ويقول: “لقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضًا ما صَنَعتُ إِلَيكم”.
وتابع الأب الأقدس: لذلك، بالنسبة إلى بولس، ليست الحرّيّة أن “يفعل المرء ما يطيب له وما يعجبه”. هذا النوع من الحرّيّة، من دون هدف ومراجع، سيكون حرّيّة فارغة تترك في الواقع فراغًا في الداخل: كم من مرّة، بعد أن نكون قد تبعنا الغريزة فقط، نتنبّه إلى أننا قد بقينا مع فراغ كبير في داخلنا وأننا قد أسأنا استخدام كنز حرّيّتنا، جمال القدرة على أن نختار الخير الحقيقي لنا وللآخرين. وحدها هذه الحرّيّة كاملة وملموسة وتُدخلنا في الحياة الواقعيّة اليوميّة.
وقال البابا فرنسيس: في رسالة أخرى، وهي الأولى إلى أهل كورنتوس، يردّ الرسول على الذين يؤيّدون فكرة خاطئة عن الحرّيّة. يقولون: “كل شيء مشروع!”، ويجيب بولس: “نعم، ولكن ليس كلّ شيء بنافع”. ثمّ يضيف: “لا يسعينّ أحد إلى منفعته، بل إلى منفعة غيره”. إزاء الذين يجرّبون اختزال الحرّيّة حسب أذواقهم فقط، يضع بولس واجب المحبّة.
وأوضح الأب الأقدس: إن الحرّيّة التي يقودها الحبّ هي الوحيدة التي تحرّر الآخرين وتُحرّرنا، تعرف كيف تُصغي من دون أن تفرض، تعرف كيف تحبّ من دون أن تجبر، تبني ولا تدمِّر، لا تستغل الآخرين لمصالحها وتصنع معهم الخير من دون أن تبحث عن مصلحتها. باختصار، إذا لم تكن الحرّيّة في خدمة الخير، فهي تخاطر بأن تكون عقيمة وألا تُثمر. أما الحرّيّة التي تحرّكها المحبّة، فهي تقود نحو الفقراء الذين نرى وجه المسيح في وجوههم. لذلك، فإن خدمة بعضنا البعض تسمح لبولس، عند الكتابة إلى أهل غلاطية، بأن يركّز على أمر ليس ثانويًّا: ففي حديثه عن الحرّيّة التي منحها له الرسل الآخرون لكي يبشِّر بالإنجيل، يؤكد أنهم أوصوه بشيء واحد فقط: أن يتذكّر الفقراء.
وأضاف الحبر الأعظم: نحن نعلم أن أحد أكثر المفاهيم الحديثة انتشارًا للحرّيّة هو: “حرّيّتي تنتهي حيث تبدأ حرّيّتك”. لكن هنا تغيب العلاقة! إنها نظرة فرديّة. أما الذي نال عطيّة التحرّر الذي حقّقه يسوع، فلا يمكنه أن يعتقد أن الحرّيّة تكمن في الابتعاد عن الآخرين، والشعور بأنّهم عقبات وإزعاج، ولا يمكنه أن يرى الإنسان مُنغلقًا في ذاته، وإنما مُندمجًا في جماعة على الدوام. إن البعد الاجتماعي أساسي بالنسبة إلى المسيحيين، ويسمح لهم بأن ينظروا إلى الخير العام وليس إلى المصالح الخاصّة.
وختم البابا فرنسيس قائلًا: في هذه المرحلة التاريخيّة بشكل خاص، نحن بحاجة إلى أن نكتشف مجدّدًا البعد الاجتماعي، لا الفردي، للحرّيّة: لقد علّمنا الوباء أننا بحاجة إلى بعضنا البعض، لكن لا يكفي أن نعرف ذلك، وإنما علينا أن نختار ذلك يوميًّا بشكل ملموس. نؤمن بأن الآخرين ليسوا عقبة أمام حرّيّتنا، وإنما الإمكانيّة لكي نُحقِّقها بشكل كامل لأن حرّيّتنا تولد من محبّة الله وتنمو في المحبّة.
ترجمة: فاتيكان نيوز