“أيها العاملون الصحيّون الأعزّاء، إنّ خدمتكم إلى جانب المرضى، والتي تقومون بها بمحبّة وكفاءة، تتجاوز حدود المهنة لكي تصبح رسالة. ويمكن لأياديكم التي تلمس جسد المسيح المتألّم أن تكون علامة على يديّ الآب الرحيمتَيْن”. هذا ما أكده البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم العالمي الثلاثين للمريض.
تحت عنوان “كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم” الوقوف إلى جانب المتألّمين في مسيرة محبّة”، صدرت رسالة البابا فرنسيس لمناسبة اليوم العالمي الثلاثين للمريض، وجاء فيها:
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لثلاثين سنة خلت، أنشأ القدّيس يوحنا بولس الثاني اليوم العالمي للمريض من أجل توعية شعب الله، والمؤسّسات الصحيّة الكاثوليكيّة والمجتمع المدني، وحثّه على الاهتمام بالمرضى والذين يعتنون بهم. نحن ممتنّون للربّ على المسيرة التي تمّت في خلال هذه السنوات في الكنائس الخاصّة في العالم كلّه. أقيمت خطوات كثيرة نحو الأمام، ولكن ما زال أمامنا الدرب طويلًا لكي نضمن لجميع المرضى، حتى في الأماكن والظروف الأكثر فقرًا وتهميشًا، الرعاية الصحيّة التي يحتاجون إليها، بالإضافة إلى المرافقة الرعويّة، لكي يعيشوا مرحلة المرض متّحدين بالمسيح المصلوب والقائم من بين الأموات. ليساعدنا اليوم العالمي الثلاثون للمريض الذي لن نحتفل به في أريكيبا في البيرو بسبب الجائحة، وإنما في بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان، لكي ننمو في القرب وخدمة المرضى وعائلاتهم.
1. رحماء مثل الآب
إنّ الموضوع الذي تمّ اختياره لهذا اليوم العالمي الثلاثين هو: “كونوا رحماء كما أنّ أباكم رحيم”، ويجعلنا أوّلًا نوجّه نظرنا إلى الله “الواسع الرحمة” الذي ينظر دائمًا إلى أبنائه بمحبّة أب، حتى عندما يبتعدون عنه. إنّ الرحمة في الواقع هي اسم الله بامتياز، وهي تعبّر عن طبيعته لا بأسلوب شعور عابر، وإنما كقوّة حاضرة في كل ما يعمله. إنّها قوّة وحنان معًا. لذلك يمكننا أن نقول، بدهشة وامتنان، إنّ رحمة الله تحمل في داخلها بُعد الأبوّة وبُعد الأمومة معًا لأنّ الله يعتني بنا بقوّة الأب وحنان الأمّ، وهو يرغب على الدوام في أن يمنحنا حياة جديدة في الروح القدس.
2. يسوع، رحمة الآب
إنّ الشاهد الأعظم لمحبّة الآب الرحيمة نحو المرضى هو ابنه الوحيد. كم من مرّة روت لنا الأناجيل عن لقاءات يسوع مع أشخاص مصابين بأمراض مختلفة! كان يسوع “يسير في الجليل كلّه، يعلّم في مجامعهم ويعلن بشارة الملكوت، ويشفي الشعب من كل مرض وعلّة”.
ويمكننا أن نسأل أنفسنا: لماذا هذا الاهتمام الخاصّ بالمرضى من قبل يسوع، لدرجة أنّه أصبح أيضًا العمل الأساسي في رسالة الرسل الذين أرسلهم المعلّم لكي يعلنوا الإنجيل ويشفوا المرضى؟ يقترح علينا أحد مفكّري القرن العشرين دافعًا، وهو: أنّ “الألم يعزل الإنسان بشكل كامل، ومن هذه العزلة المطلقة يولد النداء إلى الآخر، وطلب الآخر”. عندما يختبر الإنسان في جسده الضعف والألم بسبب المرض، يرزح قلبه أيضًا تحت الثقل، وينمو فيه الخوف، وتكثر التساؤلات، ويصبح السؤال حول معنى كل ما يحدث أكثر إلحاحًا. كيف يمكننا أن ننسى، في هذا الصدد، العديد من المرضى الذين عاشوا، في خلال فترة الجائحة، المرحلة الأخيرة من حياتهم في عزلة داخل قسم العناية المركّزة، فيما كان يعتني بهم بالتأكيد عاملون صحيّون أسخياء، ولكنّهم كانوا بعيدين عن أحبّائهم والأشخاص الأهمّ في حياتهم الأرضيّة؟ هنا تكمن أهميّة أن يكون بقربنا شهود لمحبّة الله، يسكبون على مثال يسوع، رحمة الآب، زيت التعزية وخمر الرجاء على جراح المرضى.
3. لمس جسد المسيح المتألّم
تكتسب دعوة يسوع لكي نكون رحماء مثل الآب معنىً خاصًّا للعاملين الصحيّين، أفكّر في الأطبّاء، والممرّضين والممرّضات، وفنّيّي المختبرات، والمختصّين في تقديم المساعدة والرعاية للمرضى، وكذلك بالعديد من المتطوّعين الذين يقدّمون وقتًا ثمينًا للذين يتألّمون. أيها العاملون الصحيّون الأعزّاء، إنّ خدمتكم إلى جانب المرضى، والتي تقومون بها بمحبّة وكفاءة، تتجاوز حدود المهنة لكي تصبح رسالة. ويمكن لأياديكم التي تلمس جسد المسيح المتألّم أن تكون علامة على يديّ الآب الرحيمتَيْن. كونوا مدركين لكرامة مهنتكم العظيمة، وللمسؤوليّة التي تتضمّنها. نبارك الربّ يسوع على التقدّم الذي أحرزته العلوم الطبيّة، ولا سيّما في الآونة الأخيرة، فقد سمحت التقنيّات الحديثة بتحضير مسارات علاجيّة ذات فائدة كبيرة للمرضى، ويستمرّ البحث في تقديم إسهامه الثمين من أجل التغلّب على الأمراض القديمة والجديدة، كما طوّر طبّ إعادة التأهيل معرفته ومهاراته بشكل ملحوظ. ولكن يجب ألا تجعلنا هذه الأمور ننسى أبدًا فرادة كل مريض، بكرامته وضعفه. إنّ المريض هو على الدوام أهمّ من مرضه، ولهذا لا يمكن فصل أيّ نهج علاجي عن الإصغاء إلى المريض وتاريخه وقلقه ومخاوفه. حتى عندما لا يكون الشفاء ممكنًا، لكن من الممكن على الدوام تقديم العناية والتعزية وجعل المريض يشعر بقرب يُظهر أوّلًا اهتمامًا بالشخص أكثر من مرضه. لذلك، آمل أن تكون مسارات التنشئة للعاملين الصحيّين قادرة على تفعيل الإصغاء والبعد العلائقي.
4. أماكن العناية، بيوت للرحمة
يشكّل اليوم العالمي للمريض فرصة ملائمة أيضًا لكي نوجّه انتباهنا إلى أماكن الرعاية. إنّ الرحمة تجاه المرضى، قد حملت على مرّ القرون، الجماعة المسيحيّة لكي تفتح العديد من الأماكن الشبيهة بـ”فندق السامري الصالح” التي يتمّ فيها استقبال المرضى ومعالجتهم، ولا سيّما الذين لا يجدون من يستجيب لهم ويعتني بهم، إمّا بسبب الفقر، أو الإقصاء الاجتماعي، أو صعوبة علاج بعض الأمراض. والذين يدفعون الثمن، في هذه الحالات، هم بشكل خاصّ الأطفال، والمسنّون، والأشخاص الأشدّ ضعفًا.
رحماء على مثال الآب، رافق العديد من المرسلين إعلان الإنجيل ببناء المستشفيات والمستوصفات ودور الرعاية. إنّها أعمال ثمينة تجسّدت من خلالها المحبّة المسيحيّة، وأصبحت محبّة المسيح التي شهد لها تلاميذه أكثر مصداقيّة. أفكّر بشكل خاصّ في سكّان مناطق الأرض الأشدّ فقرًا، حيث هناك الحاجة في بعض الأحيان إلى قطع مسافات طويلة للعثور على مراكز رعاية تقدّم ما قد توفّر لديها، على الرغم من محدوديّة مواردها. لا يزال الطريق أمامنا طويلًا، وفي بعض البلدان يبقى الحصول على العلاجات المناسبة نوعًا من الرفاهية. وتشهد على ذلك، على سبيل المثال، ندرة توافر اللقاحات ضدّ فيروس كورونا في البلدان الأكثر فقرًا، والأكثر من ذلك غياب علاجات الأمراض التي تتطلّب أدوية أكثر بساطة.
في هذا السياق، أرغب في أن أعيد تأكيد أهميّة المؤسّسات الصحيّة الكاثوليكيّة: إنّها كنز ثمين علينا أن نحافظ عليه وندعمه. لقد ميّز وجودها تاريخ الكنيسة بالقرب من المرضى الأشدّ فقرًا والأوضاع المنسيّة. كم من مؤسّسي الرهبانيّات عرفوا أن يصغوا إلى صرخة الإخوة والأخوات المحرومين من الحصول على العلاجات أو الذين تتمّ رعايتهم بطريقة سيّئة، وبذلوا ذواتهم في خدمتهم! واليوم أيضًا، حتى في البلدان الأكثر تقدّمًا، يشكّل حضورهم بركة، إذ يمكنهم أن يقدّموا على الدوام لا الرعاية الجسديّة مع كل كفاءاتها الضروريّة وحسب، وإنما المحبّة أيضًا التي تجعل المريض وعائلته في محور الاهتمام. ففي زمن انتشرت فيه ثقافة الإقصاء، ولم يعد يُعترف دائمًا بأنّ الحياة تستحقّ أن تُقبل وتُعاش، يمكن لهذه المنشآت، باعتبارها بيوتًا للرحمة، أن تكون مثاليّة في حماية كل حياة ورعايتها، حتى تلك الأكثر هشاشة منذ الحبل بها وحتى موتها الطبيعي.
5. الرحمة الرعويّة: حضورٌ وقرب
في مسيرة هذه السنوات الثلاثين، شهدت رعويّة الصحّة اعترافًا أكبر بخدمتها التي لا غنى عنها. إذا كان أسوأ تمييز يعاني منه الفقراء -والمرضى هم فقراء من حيث الصحّة- هو غياب الاهتمام الروحيّ، فلا يمكننا أن نتوانى عن أن نقدّم لهم قرب الله، وبركته، وكلمته، والاحتفال بالأسرار المقدّسة، ومسيرة نموّ ونضوج في الإيمان. في هذا الصدد، أريد أن أذكّركم بأنّ القرب من المرضى ورعايتهم الرعويّة ليسا مهمّة بعض الأشخاص المختصّين في هذا المجال فقط لأن زيارة المرضى هي دعوة وجّهها المسيح إلى جميع تلاميذه. كم من المرضى والأشخاص المسنّين الذين يعيشون في البيت وينتظرون من يزورهم! إنّ خدمة التعزية هي مهمّة كل معمّد، إذ يتذكّر كلمة يسوع: “كُنتُ مريضًا فعُدتُموني”. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، أوكل إلى شفاعة مريم، شفاء المرضى، جميع المرضى وعائلاتهم لأنهم عندما يتّحدون مع المسيح الذي حمل آلام العالم، يجدون المعنى والتعزية والثقة. وأصلّي من أجل جميع العاملين الصحيّين، لكي يقدّموا للمرضى إذ يمتلئون بالرحمة، بالإضافة إلى العلاجات المناسبة، قربهم الأخويّ أيضًا.
المصدر: فاتيكان نيوز