دعاء حمصي فرح
هل كان يدرك عندما اعتنق الحياة الرهبانيّة والكهنوتيّة قساوة الإنسان تجاه أخيه؟ هل علم بحياة نزلاء السجون خلف الأسوار والجدران الباردة والعتمة الحالكة؟ هل عرف بانتهاك حقوق الإنسان وسلب حرّيته؟ هل أدرك معاناة المرتهنين للمخدّرات وخطر آفة الإدمان على المجتمع؟
أسئلة كثيرة لم يحصل على أجوبتها إلا بعد سنوات طويلة من الخبرة والتجربة والمعاينة عن قرب لمجتمعات رافقها في مختلف أوجهها، الطالبيّة والجامعيّة، حتى وُلِدَت «جمعيّة عدل ورحمة» التي كرّس حياته لها وعَبْرَها للدفاع عن حقوق نزلاء السجون، وإعادة الإنسانيّة إلى قلب العدالة، والحفاظ على الحياة البشريّة وكرامتها.
إنّه رئيس جمعيّة «عدل ورحمة» الأب د. نجيب بعقليني الذي يخبر «قلم غار» عن دعوته العابقة بالمحبّة والعطاء والاعتناء بيسوع، مستجيبًا نداءه «كنت سجينًا، فجئتم إليَّ» (متى 25: 36).
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/34791239_10160388531430585_6019617877634580480_n.jpg)
دعوة متجذّرة منذ الطفولة
شكّل اعتناق الأب بعقليني الحياة الرهبانيّة والكهنوتيّة مسارًا يجمع بين السهولة والتحدّي، وتجذّرت دعوته في طفولة مليئة بالروحانيّة والتأمّل. يقول: «كان الأب الراحل الياس هليّل، كاهن رعيّة بلدة بزبدين المتنيّة آنذاك، مرشدي الروحي، ومحفّزًا أساسيًّا للالتزام بأن أكون كاهنًا لخدمة كلمة الله، وراهبًا يعيش النذور والروحانيّة المسيحيّة. ودفعني إلى الالتحاق بالرهبانيّة الأنطونيّة، حيث انضممت إلى الطالبيّة في دير مار أنطونيوس-الحدث-بعبدا، وبدأت دراستي الابتدائيّة. في هذا المكان، جمعت بين التعليم الأكاديمي والتوجيه الروحي والرعوي».
ساندت الأب بعقليني عائلته الصغيرة، فاحتضنت دعوته وأثّرت فيها. يتابع: «عندما ارتسمت كاهنًا، لاحظت أمّي مشقّات السنوات الأولى من خدمتي، فكانت تقول لي أحيانًا: “ما الذي دفعك إلى اختيار هذا الطريق؟”. لكنها صلّت باستمرار من أجلي كي أثبت في هذه المسيرة».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/467610764_10169377064035585_4770004191023421967_n.jpg)
التوجّه نحو العمل الرعوي
عن الحياة الكهنوتيّة، يقول الأب بعقليني: «كان توجّهي الأساسي نحو العمل الرعوي ضمن الدير ونشاطات الحياة الديريّة. تخصّصت في اللاهوت العقائدي في فرنسا، وعدت إلى لبنان حيث بدأت العمل في التربية، وتولّيت الإدارة في المعهد الأنطوني-بعبدا-الحدث، فضلًا عن مهمّات إداريّة في الجامعة الأنطونيّة. مع مرور الوقت، أدركت الحاجة الملحّة لمعالجة قضايا مجتمعيّة تؤثر على الشباب والعائلات، بخاصة في ظلّ الحروب التي عانى منها لبنان، ما منحني فرصةً للتواصل مع المجتمع ومعرفة شجونه».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/WhatsApp-Image-2024-12-18-at-9.57.18-AM-1.jpg)
الاهتمام بالعائلة والزواج
اهتمام الأب بعقليني بقضايا العائلة والحياة الزوجيّة جزء أساسي في مسيرته. يخبر عن تلك المرحلة: «شاركتُ د. كلوديا شمعون أبي نادر في إصدار كتب حول سرّ الزواج، وتمحورت أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه حول الإعداد لسرّ الزواج في الكنيسة المارونيّة في لبنان. وعملت على مرافقة المتزوّجين من خلال محاضرات وندوات وكتب إذ كنت أؤمن بأنّ العائلة هي الأساس لنموّ المجتمع وتقديسه، وهي أيضًا البيئة التي تولد فيها الدعوات الكهنوتيّة والرهبانيّة».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/WhatsApp-Image-2024-12-22-at-5.33.27-PM.jpg)
الإنسان محور الرسالة
على مدى عشرين عامًا، تقلّب الأب بعقليني بين التعليم والإدارة ومرافقة العائلات قبل أن يدرك أنّ «العمل الرعوي يمكن أن يتكامل مع الدفاع عن حقوق الإنسان»، ويبدأ العمل في جمعيّة «عدل ورحمة» بصفة نائب رئيس لمدّة عشر سنوات. من ثم، تولّى رئاسة الجمعيّة.
يؤكد الأب بعقليني أنّ «الإنسان محور رسالته وتفكيره الروحاني واللاهوتي»، شارحًا: «استلهمت ذلك من تجسّد يسوع المسيح الذي أخذ من إنسانيّتنا ليقدّسها في حين أنّ هذه الإنسانيّة هُمِّشَت وجُرِحَت بسبب الحروب والجشع والشرور الفاتكة بمجتمعنا. من هذا المنطلق، قرّرت أن أكرّس جهودي للارتقاء بإنسانيّة الأفراد، سواء من خلال العمل الروحي أم الدفاع عن حقوق الناس».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/WhatsApp-Image-2024-12-18-at-9.57.19-AM.jpg)
خدمة السجناء والمدمنين
«كنت سجينًا، فجئتم إليَّ» (متى 25: 36). هذه الآية عبّرت عنها جمعيّة «عدل ورحمة»، فكانت المنصّة التي عَبَرَ منها الأب بعقليني إلى قضايا حقوق الإنسان: «ركّزتُ بشكل خاص على الدفاع عن السجناء والمدمنين على المخدّرات إذ شعرت بأنّهم يمثّلون أكثر الفئات تهميشًا ومعاناةً في مجتمعنا. كانت رؤيتي قائمة على الجمع بين العمل الرعوي والإنساني، فرسالتنا تكمن في خدمة الإنسان بكل جوانب حياته الروحيّة والجسديّة والاجتماعيّة، بما يتماشى مع تعاليم المسيح ورسالته».
الكنيسة تبلسم جراح السجين
لا يخفي الأب بعقليني تأثّره من وضع السجون في لبنان وسوريا حتى في دول عربيّة أخرى، شارحًا: «السجن هو مرآة تعكس أحوال المجتمع، تمامًا كما يعكس المجتمع واقع السجون. عندما تتفشّى الجرائم بأنواعها كلّها، فهذا يعكس مشكلات مجتمعيّة وأسبابًا متعدّدة تدفع الأفراد إلى السجن، منها الفقر والجهل وغياب العدالة الاجتماعيّة».
ويردّ على الانتقادات التي يواجهها بسبب اهتمامه بالسجناء إذ يعتبرهم البعض مجرمين يستحقون أقسى العقوبات، قائلًا: «أوافق أنّ العقاب ضروري، لكنه لا ينفصل عن التأهيل والإصلاح. دورنا كمجتمع مدني وإكليروس ورجال دين يكمن في بلسمة الجراح وزرع المحبّة والرجاء والرحمة للوصول إلى عدالة حقيقيّة تُوازِن بين العقاب والتأهيل، ومنح السجناء فرصة للتوبة وإعادة الإصلاح».
في تقويمه لهذه التجارب، يقول الأب بعقليني: «حياتي مليئة بالصدمات وخيبات الأمل، ولا سيّما بسبب بعض المسؤولين الذين تنكّروا لحقوق الإنسان واستغلّوا مناصبهم للفساد والهيمنة. لكن هذه التجارب علّمتني الكثير، ولن يكون الكتاب الذي سأصدره قريبًا تحت عنوان “عالمنا المترنّح بين خريف العولمة والتحوّلات الجيوسياسيّة” إلا مرآة لها».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/469552108_10169747055470585_3126127349504064982_n.jpg)
الأمل والتغيير
يعتبر الأب بعقليني أنّ العالم أصبح أكثر قسوة وتشرذمًا، وأنّ الإنسان ينهش أخاه الإنسان للهيمنة والسيطرة. يتابع: «نفتقد إلى فكرة “المواطنة” التي تضمن حقوق الجميع وتعزّز العيش معًا. نحن بحاجة إلى تنشئة إنسانيّة شاملة تجمع بين الأخلاق والروحانيّة والمدنيّة لإعادة بناء مجتمعاتنا على أسس العدالة الاجتماعيّة والعدل والمساواة». لا يتخلّى عن الأمل والرجاء، مستشهدًا بوثيقة الأخوّة الإنسانيّة التي جمعت البابا فرنسيس وشيخ الأزهر في العام 2019، فهي مثال على إمكان تحقيق التغيير، بحسب قوله.
الصمت والتجدّد الداخلي
لحظات الصمت، بالنسبة إلى الأب بعقليني، ليست فارغةً، بل هي صمت متكلّم، مفعم بالتأمّل والتخطيط». يشرح: «أستمد قوّتي من الربّ يسوع الذي يغذّي فكري وقلبي وضميري. أعيش الصدق مع ذاتي ودعوتي، ولا سيّما مع الآخرين، وأحاول أن أترجم كلامي إلى أعمال حقيقيّة تحمل المصداقيّة».
يتجسّد تأثّره بالإنجيل في كلمات يسوع المسيح التي تحمل معانيَ عظيمة: «أنا خبز الحياة»، و«نور العالم»، و«الطريق». يردف: «هذه العبارات تمنحني الثقة بأنّ الله حاضر بيننا، وأنّ الإنسان هو المرآة التي يمكننا من خلالها اكتشاف الله».
![](https://alamghar.com/wp-content/uploads/2024/12/WhatsApp-Image-2024-12-18-at-9.57.22-AM-3.jpg)
رسالة من عمق الألم
من قلب المعاناة، يوجّه الأب بعقليني رسالة إلى المسؤولين، سواء أكانوا روحيين أم مدنيين، كي «يتحرّكوا من المشاهدة إلى العمل ومعالجة الأسباب الجذريّة للمشكلات، ومن إطلاق الشعارات إلى تنفيذها، ومن الاتكال على الآخرين إلى الاعتماد على أنفسنا».
نقل البشرى للجميع
يختم الأب بعقليني سرد اختباره عبر «قلم غار»، رافعًا الشكر إلى الله على نعمه. ويصف هذه البركات بأنّها «بذور الحياة المساعِدة على الاتحاد به وخدمة الإنسان من أجل إنسانيّته، والتحوُّل إلى أداة دائمة لنقل البشرى من خلال أعمالي وتصرّفاتي، مدفوعًا برسالة المسيح الذي جعل الإنسان محور اهتمامه».