ميراي عقيقي محفوظ
24 كانون الأوّل 1898، ليلة الميلاد المجيد، أغمض الأب شربل مخلوف عينيه، وأسلم روحه الطاهرة إلى الآب السماوي، بعد إصابته بالفالج في خلال رفعه القربان المقدّس في الذبيحة الإلهيّة بمحبسة القديسين بطرس وبولس-عنايا حيث فاحت رائحة القداسة. ومن هناك، انطلقت مسيرة قداسته اللامتناهية.
للإضاءة على حالة جثمان القديس شربل عبر مرور الزمن، تواصل «قلم غار» مع الأب د. حنا إسكندر المتعمّق في حياة القديس شربل وأستاذ التاريخ واللغات القديمة في الجامعة اللبنانيّة الذي جمع معلومات تاريخيّة عن جثمان مار شربل ووثّقها، فأفاد موقعنا بالتغييرات التي مرّت على جثمانه عبر السنين، علمًا بأنّ مصدر تلك المعلومات أطبّاء واختصاصيّون وكهنة وشهود عيان عاينوا جثمان قديس عنايا عن قُرب وشرحوا حالته بالتفصيل كما تبرّكوا منه.
ما يقارب مئويّة من الرشح
في هذا السياق، قال الأب إسكندر لـ«قلم غار» إنّ جثمان القديس شربل رشح لمدّة 95 عامًا، ابتداءً من عام 1898 أي تاريخ انتقال مار شربل إلى الحياة الأبديّة لغاية 22 كانون الثاني 1993، تاريخ أعجوبة شفاء نهاد الشامي، حين قال لها: «حطيت دمي بدمك». وما زال جرح عنقها ينفتح بشكل منتظم، وأحيانًا في بعض المناسبات…
بحسب الأب إسكندر، توقف رشح جثمان القديس شربل عام 1993، وكان هو الشاهد والدليل على فتح التابوت. كما أنّه شاهد حنجورًا مليئًا بدم لزج من القديس شربل في المتحف، وقد جفّ الدم تمامًا بعد تاريخ أعجوبة نهاد الشامي.
مراحل تبدُّل حالة جثمان مار شربل
- رشح لا يتوقف
فنّد الأب إسكندر مراحل تغيُّر حالة جثمان مار شربل، ساردًا: «”امشوا على خيرة الله! لا تخافوا، فالأب شربل يسهّل لنا الطريق”. هذه البداية، عندما قال الأب الحبيس مكاريوس لجمهور الدير لدى حملهم جثمان الأب شربل فور انتقاله من المحبسة نحو دير مار مارون-عنايا في يوم مثلج وقارس، زالت الغيوم، وظهرت الشمس. ساروا بالمحمل بدون تعب، قائلين: أعجوبة من عجائب الأب شربل!».
وتابع الأب إسكندر سرد الوقائع استنادًا إلى أبحاثه، مشيرًا إلى النور الذي انبعث من بيت القربان بحضور جثمان القديس: «عند منتصف الليل، زار الأخ الياس المهريني القربان كعادته. وبعد تلاوة المسبحة الورديّة، جاء إلى رئيس الدير مسرعًا، وأيقظه قائلًا: “رأيتُ شيئًا غريبًا لم أره في حياتي! قم وانظر! نورٌ قويٌ يتدفّق من باب بيت القربان، يطوف حول جثمان الأب شربل، ثمّ يتعالى إلى الثريّا، ويعود إلى بيت القربان”. فذهب معه رئيس الدير إلى الكنيسة ولم يرَ شيئًا، جادله واعتبره واهمًا».
وأضاف: «في الصباح، جاء القسيس مارون للاحتفال بالذبيحة الإلهيّة. تضايق جدًّا من الرائحة المنبعثة من العفونة. كان الماء سابحًا تحت جثمان الأب شربل (الكميّة تزيد عن 500 ليتر لأنّ الماء لم تمتصّه كلّه أرضيّة الكنيسة المبنيّة على التراب بغياب الإسمنت (غير جارية)، ورائحة العفونة منتشرة بقوّة». فحمل جمهور الدير الجثمان من الكنيسة إلى ممشى الدير، ووضعوه على بساط شعر، ونزعوا منه الأثواب، ومسحوا العفونة عنه بملحفة خام، وكانت رائحتها عفنة، فتحوّلت إلى رائحة ذكيّة».
تجدر الإشارة إلى أنّ المقصود بالماء هو بلازما الدم أي سائل خفيف في الدم بدون الخلايا الدمويّة، لكنه يحتوي على البروتينات ومكوّنات الدم الكامل الأخرى. تمثّل البلازما نسبة 60% من حجم الدم في جسم الإنسان، ودورها تعزيز المناعة ومنع النزيف.
- جثمان غير متحلّل
واصل الأب إسكندر سرده، بناءً على رواية الأخ الياس المهريني: «وجدنا الجثمان سليمًا من قمّة الرأس إلى موطئ القدم، ليّنًا طريًّا ناعمًا مرنًا كأنّ روحه باقية فيه. وكان شعر حاجبيه ورأسه ولحيته محفوظًا مع بعض الشيب، وشعر صدره أيضًا، وعلى اليدين آثار عفن أبيض ناصع شبه القطن. وجهه لونه مسودّ، غائر البطن، فيه آثار عقر بمحلّ الزنّار الحديدي، إنّما لا جرح فيه. وعندما مسحنا العفونة عن الجثمان ظهر الوجه واليدان كأنّ صاحبه حيّ».
ولفت الأب إسكندر إلى «أنّ الرهبان حينها اعتبروا أنّهم إذا وضعوا جثمان الأب شربل على السطح، سيجفّ من رشح البلازما الممزوج بالدم. لذلك، وضعوه ليجفّ قبل وضعه في “المنبش”، فتقدّم حينها سابا طنّوس موسى، ووخز الخاصرة بريشة فصاده (أداة تُستخدم لسحب الدم)، وخرج الدم منها ناشبًا. فأخذ سابا في الحال حنجورًا كبيرًا وملأه من الدم وحفظه معه. وكان كلّما وصلت يده إلى شيء من آثاره يأخذه، وكان الدم أحمر قانيًا. وبّخ الرهبان سابا، وأسرعوا فأخذوا قطنًا ونشّفوا الدم وسدّوا الجرح، فتوقف النزيف».
- نضح دم متواصل
قال الأب إسكندر إنّ الأب يوسف الكفوري تسلّم الجثمان الذي حيّر جمهور الدير، مردفًا: «فتح الأب الكفوري التابوت الذي لم يكن محكم القفل، فوجد الأب شربل بأثوابه الرهبانيّة، وقال: “شممت رائحة غير كريهة، ووجدت الجثمان محفوظًا سليمًا كأنّه جثمان راهب ميت من ساعة، إذ إنّ شعر لحيته وشاربيه وحاجبيه ورأسه محفوظ، ولا تشويه فيه إلا إحدى عينيه، فقد كان فيها بعض التشويه. وأمّا باقي الجسم، فلم يكن فيه أدنى تشويه، ولا فساد. وكان ليّنًا على المفاصل وفي الجلد ومواضع اللحم، ولونه أسمر اعتيادي. وبعد ثلاثة أيّام، أنزلته من المدرج ووضعته في غرفة شماليّة غربيّة. ومن هناك، كنت في الليل أحمل الجثمان، مع الأخ إيجيديوس التنّوري، وأضعه على سطح الدير عريانًا، بهدف تعريضه للهواء ليجفّ الدم الذي كان يرشح بغزارة من ظهره وخاصرتيه؛ وهذا الدم كان غزيرًا جدًّا. فأنا كنت ألفّ الجثمان بشرشفين أبيضين، وكلّ يوم أغيّرهما، وأراهما مبلّلين بالماء والدم، وعليهما ظاهرة بقع الدم الذي كان أكثر من الماء”».
وواصل الأب إسكندر حديثه، نقلًا عن الأب الكفوري الذي تابع شرحه: «”بقيت أعرّض الجثّة للهواء في الليل نحو أربعة أشهر (عُرضت عارية على سطح الكنيسة ولم تنشف، فكم هي الكمّية التي تنزل في كل ليلة، من المؤكد أنّها تزيد عن 20 ليترًا)، والهواء الشرقي الناشف الذي كان يجفّف الأرض، وأحيانًا يؤثّر في الأشجار الحيّة؛ هذه العوامل لم تؤثّر في الجثّة، بل بقيت على حالتها. لمّا رأيت نضح الدم من صدره بكثرة، لم يوقفها التعريض المتواصل للهواء الناشف على سطح الدير مدّة تقارب أربعة أشهر، من أواخر الربيع إلى نهاية الصيف، فكّرت في نزع أمعاء هذه الجثّة، لعلّي أتوصّل إلى إيقاف نضح الدم”».
- من 1927 حتى 1993
أكمل الأب إسكندر سرده مراحل تغيُّر جثمان القديس شربل، قائلًا: «عام 1927، فُحِصَ الجثمان، وكان لونه أحمر مصفرّ، والجلد يابس في القسم الأكبر، غير أنّه طريّ في بعض أقسامه كاليد والظهر. العضلات ممتصّة، وامتصاصها يظهر جليًّا تحت الجلد الذي ينضح مادة لزجة، لونها مثل لون المصل الجامد، ورائحتها كرائحة المصل المائل إلى الفساد، كأنّ هذه المادّة تفسد بعد خروجها من المسام غير المنظورة».
وأردف: «في العام نفسه، وُضِعَ جثمان الأب شربل في القبر بأمر من الكرسي الرسولي، وصار السرداب قبرًا جديدًا، وبقي هناك من 1927 إلى 1950. وكُتِبَ على القبر في الحائط هذه العبارة فقط: هذا ضريح الأب شربل».
وأضاف: «في شباط من العام 1950، رأى بعض الزوّار رطوبة في أسفل الجدار الذي ضمّنه التابوت. وحدث أنّ جثمان مار شربل رشح طوال 23 سنة، فامتلأ التابوت، ونزل الرشح إلى أرض القبو، وامتصّت الأرض الرشح، وأصبحت بركة. وجرى الرشح إلى الحائط السميك. وبعدها، نزل إلى أساس الدير، فامتلأ وأصبحت الرطوبة على الشق الثاني من الحائط الذي تبلغ سماكته ما يزيد عن متر واحد وعشرين سنتيمترًا. ولا ننسى أيضًا عامل التبخّر طوال هذه السنوات. فخاف رئيس الدير والرهبان حينذاك من أن يكون تسرّب إلى القبر ماءٌ من المطر أو من السطح، فيضرّ الجثمان».
واستنتج: «لذلك، أتى رئيس الدير ليلًا وسرًّا، يرافقه راهبان وشابّان من خدم الدير. رفعوا حجرين أو ثلاثة وفتحوا القبر، فوجدوه ناشفًا من كل جهاته، وفتحوا التابوت الذي كان مبطّنًا بالزنك. وجدوا الجثمان والأثواب كلّها مبلّلة بالماء. ووجدوا التابوت مهترئًا، والماء هو عرق الجثمان، وقد تجمّع في التابوت وأكل الزنك فثُقِبَ وظهر من الحائط، وشاهده الناس وتبرّكوا منه، وقد جاؤوا من كل لبنان. ثمّ أقفلوا القبر، بعدما كانوا مسحوا القديس شربل بقطعة قماش أبيض، فانطبعت صورته عليه».
وختم الأب إسكندر حديثه عبر «قلم غار»، قائلًا: «هكذا، ظلّ الرهبان يتفقّدون تابوت القديس شربل المصنوع من خشب الجوز، فاتحين القبر لغاية سنة 1993، تاريخ حصول أعجوبة القديس شربل مع نهاد الشامي. وبالتالي، جفّ جثمان مار شربل وتوقف رشحه تمامًا».
ما زال القديس شربل مثال الصبر والصمت والتأمّل والتفاني، وما برح المؤمنون يطلبون بركته وهو يتضرّع من أجلهم. عبر مثال حياته المكرّسة لله حتى الرمق الأخير، ينثر مار شربل الأمل والإيمان والرجاء في أفئدة الملتجئين إليه، فتتجلّى قوّة الله من خلال العجائب المتواصلة بشفاعته، وتطيب القلوب وتُشفى الأجساد من الأسقام ويغمر السلام النفوس.