ميراي عقيقي محفوظ
«سمائي وجدتُها في الثالوث الأقدس، المقيم في قلبي سجين الحبّ. هناك أتأمّل إلهي وأردّد بدون خشية أنّني أريد أن أخدمه وأحبّه إلى الأبد. سمائي هي أن أبتسم لهذا الإله الذي أعبده، أن أتألم منتظرةً أن ينظر إليَّ بعد، تلك سمائي، أنا». إنّها كلمات القديسة تريزيا الطفل يسوع التي اكتشفت دعوتها إلى القداسة، فشرّعت قلبها ليهبّ فيه الروح القدس كيفما يشاء ويوصلها إلى حيث يريد.
بنعمةٍ مجّانيّة، أصبحت تريزيا رسولةً للحبّ الإلهي الذي أعلن من خلالها للعالم فيض رحمته وحنانه.
هذه القديسة الصغيرة هي ملفانة الكنيسة أي معلّمتها، بُنِيَ على اسمها أوّل دير في العالم في بلدة سهيلة الكسروانيّة اللبنانيّة.
تاريخٌ زاخر بالهدايا البابويّة
في حديث خاص إلى «قلم غار»، سرد لنا الراهب المريمي الماروني الأب سليم الرجّي قصّة بناء هذا الدير، على الرغم من الصعوبات التي واجهت مراحل تشييده، وذلك لأنّ القديسة تريزيا لم تكن معروفة حينذاك، فقال: «إنّه أوّل دير في العالم يُشَيَّدُ على اسم القديسة تريزيا الطفل يسوع. أسّسه الأباتي جبرايل الشمالي، الرئيس العام للرهبانيّة المارونيّة المريميّة، عام 1927 بعد عودته من روما، حيث شارك في إعلان قداسة تلك الراهبة الكرمليّة العظيمة عام 1925».
وأضاف: «في أيّار 1927، أهدى البابا بيوس الحادي عشر الرئيس العام ذخيرتين من القديسة تريزيا؛ إحداهما من عظمها والثانية من شعرها، ودعاه ليحمل الأولى كتذكار مقدّس، وأن يضع الثانية في كنيسة الدير الجديد عربون بركة ورضا من البابا، وهي موجودة في الكنيسة ضمن شعاع مذهّب على مرأى من الزائرين والحجّاج».
وتابع الأب الرجّي: «في العام 1929، منح البابا بيوس الحادي عشر كنيسة الدير براءتين: الأولى قضت بأن يكون مذبحها الكبير مذبحًا إنعاميًّا لمدّة سبع سنوات، والثانية تمنح الغفران الكامل لكلّ من يزور كنيسة هذا الدير مصلّيًا على نيّة الحبر الأعظم وانتشار الإيمان المقدّس، بشرط أن يكون في حالة النعمة».
وشرح: «في العام 1972، أُضيف إلى هذا الدير الجناح الغربي ليصبح مقرًّا للإكليريكيّة الكبرى للرهبانيّة المارونيّة المريميّة.
في العام 1986، احتفل الدير بالذكرى الستين على تأسيسه، ومَنَحَ البابا يوحنا بولس الثاني بواسطة مجمع التوبة المقدّس في حاضرة الفاتيكان، بموجب بروتوكول يحمل الرقم 155/1986/1، غفرانًا كاملًا لزوّاره التائبين على مدى سنة، ابتداءً من 3 تشرين الأوّل 1986 لغاية 3 تشرين الأوّل 1987.
وصدرت بركة رسوليّة خاصّة من البابا نفسه لرهبان الدير ولجميع الكهنة والمؤمنين في 18 أيلول 1986. في تلك المناسبة، رُمِّمَت كنيسة الدير وأُضيفَ البناء الخارجي شرقيّ الكنيسة أي شُيِّدَ مزار خاص للقديسة تريزيا في ساحة الدير الخارجيّة».
وأردف: «لمناسبة يوبيله الماسي عام 2002، صدرت براءة من مجمع التوبة المقدّس يمنح فيها البابا الغفران الكامل لجميع من يتمّمون الواجبات الروحيّة في هذا الدير (الاعتراف والمناولة والصلاة على نيّة الحبر الأعظم) في خلال وجود ذخائر القديسة تريزيا (1-6 أيلول ومن 29 أيلول إلى 19 ت1 2002) وطوال السنة اليوبيليّة (منذ 30 أيلول 2002 لغاية 1 تشرين الأوّل 2003)».
مركز إشعاع روحي
واصل الأب الرجّي سرد تاريخ الدير، قائلًا: «في العام 2004، أُعيد ترميم المزار وأضيفت إليه غرفة جديدة وُضِعَت فيها ذخائر القديسة تريزيا في مذخر طبق الأصل لمذخر ليزيو. يحتوي المزار على ذخائر قديسين من بلدان وحقبات زمنيّة مختلفة وتمثال للقديسة مريم العذراء سيّدة الابتسامة. ويتوسّط ذلك القربان المقدّس الموضوع ضمن شعاع في غرفة مخصّصة للسجود والتأمّل. كلُّ ذلك يجعل من دير القديسة تريزيا واحة صلاة واختلاء لكل مؤمن وتائب».
واستنتج الأب الرجّي: «وهكذا، بعدما أصبح دير القديسة تريزيا الطفل يسوع في سهيلة مركز إشعاع روحي، ومزارًا يؤمّه المؤمنون من كل الطوائف والأديان لتكريم القديسة الشابّة تريزيا الطفل يسوع، قرّر المسؤولون في الرهبانيّة المارونيّة المريميّة، بمعونةٍ من بعض العلمانيين الذين يكرّمون تلك القديسة، أن يبنوا كنيسةً كبيرة، فأخذ على عاتقه الأب مروان الخوري المريمي -رئيس الدير آنذاك- أن يعمل جاهدًا مع المحسنين الخيّرين، وأن يبني صرحًا كبيرًا إلى جانب الدير ويؤهّله. وقد بدأ البناء عام 2006 وانتهى عام 2008. وتزيّن بلوحة في صدر الكنيسة تُخبر عن يسوع والرسل في أثناء العاصفة (بحسب الإنجيلي لوقا 8: 22-25) بريشة الرسام حبيب الخوري»
وختم الأب سليم الرجّي حديثه عبر «قلم غار»، داعيًا المؤمنين إلى زيارة أوّل دير بُنِيَ على اسم القديسة تريزيا الطفل يسوع في سهيلة لينالوا نعمًا روحيّة.
يبقى دير القديسة تريزيا الطفل يسوع في سهيلة، بتاريخه العريق وبركته المستمرة، شهادة على الحبّ الإلهي الذي تجلّى في حياة معلّمة الكنيسة. زوّاره يجدون فيه ملاذًا للسلام الروحي ولحظات تأمّل عميق، تجذبهم قديسة صغيرة اعتنقت الحبّ حتى النفس الأخير.