غيتا مارون
ابتسامة ارتسمت على شفاه الأمل، قبلة طبعها ربيع العمر على دروب الحياة، فأزهرت سحرًا وفرحًا وألحانًا…
كانت تستعدّ لعرسها بقلب نابض بسعادة لا توصف لأنها وجدت شريك عمرها الحبيب، وقرّرت إكمال مسيرتها معه، لكن انفجار بيروت الآثم قال كلمته، فانقلبت المقاييس والمواعيد والأفراح المنتظرة إلى ذكريات حزينة ومآتم دائمة ودموع لا تنضب.
إنها الشهيدة البطلة سحر فارس التي امتزجت دماؤها الذكيّة بتراب الوطن، وأبكى رحيلها الشعب اللبناني كلّه.
جيلبير القرعان، الحبيب المذبوح من الوريد إلى الوريد، أخبر “قلم غار” عن الألم الذي مزّق فؤاده، طابعًا طعنات الرحيل القاسي في شرايين جسد غادرته الروح عندما خطف انفجار بيروت غاليته، الشهيدة الأولى في السلك العسكري في لبنان سحر فارس.
عزائي الوحيد…
“رغبنا في تتويج سبع سنوات من الحبّ في قلب الله بالارتباط الأبديّ، وحدّدنا تاريخ عرسنا في الشهر السادس من العام 2021، بعدما أُجّل بسبب عدم جهوزيّة المنزل الجديد”، يخبر جيلبير.
“كانت حبيبتي الشهيدة سحر قد أعدّت مفاجأة سارّة بمناسبة عيد ميلادي في الثالث من آب الماضي، على الرغم من أنني لا أهتمّ بالاحتفال به، لكنها كانت تحبّ المفاجآت… هذه المرّة، كانت المفاجأة من نوع آخر، ولن أنسى هذا التاريخ ما حييت!
أحببت روح سحر وقلبها وحنانها! إنها طفلة سرقت قلوب الجميع… لقد أحزن رحيلها قلبي الذي اعتاد رؤيتها، لكن ما يعزّيه أنها بالقرب من أمّنا مريم العذراء في السماء حيث لا همّ ولا تعب”.
هكذا احتفلتُ بذكرى خطوبتنا…
ويتابع جيلبير بصوت متهدّج تخنقه العبرات: “في ذكرى خطوبتنا، احتفلت معها وأهديتها باقة من الورود وأحضرت قالب حلوى وقطعته وحدي لكنها كانت معي… احتفلت معها لأننا في المسيحيّة نعتبر الموت انتقالًا إلى السماء، وأنا متأكد أنها معي وتراني وفخورة بي.
كان هذا التاريخ يعني لها الكثير ولطالما احتفلنا به بطريقة مميّزة، وحلمنا بالاحتفال بذكرى زواجنا في منزلنا الجديد في السنة المقبلة…
أعدها بأنني سأكمل مسيرتي معها وأقوم بكل ما تحبّه وأحتفل بكل مناسبة تجمعني بها؛ تشاركني من السماء وأنا من الأرض”.
العرس تحوّل إلى دفن
ويقول الحبيب الذي تغلغل الحزن في شرايينه: “كنا جسدَيْن في روح واحدة.
عندما رحلت سحر، رحل كل شيء… بعد انتقالها إلى السماء، انتقلت معها… أنا جسد غادرته روحه. ما زالت سحر معي حيثما أذهب… أرغب في أن أسعى دومًا إلى طمأنة قلبها بشأن عائلتها وكل الأمور التي كانت تقلقها…
لقد خسرت هدفي ومستقبلي الذي رغبت في بنائه معها وحلمي بتأسيس عائلة مع أحبّ الناس إلى قلبي…
حُرِمْتُ من أحلامي التي انهارت بعد غيابها: العرس تحوّل إلى دفن، وبطاقة الدعوة غدت ورقة نعوة، “بدل ما أنقل المحبس من إيد لإيد حطّيتو برقبتي”.
نعم، تعجز الكلمات عن التعبير عن الوجع الذي يسكن فؤادي”…
هذا ما علّمتني إيّاه سحر…
ويخبر جيلبير عن الأثر الأزليّ الذي طبعته سحر في قلبه: “عندما أصلّي، أطلب من سحر ألا تجعل أحدًا يختبر مرارة شعوري… أنا شاب وحيد، فقدتُ معنى الحياة… أعرف أن حبيبتي لم ترغب يومًا في أن أكون حزينًا، بل كانت تعرف أن ليس لي غيرها كي أشكي لها همّي، وأبكي على كتفها، وأخبرها بمقدار ألمي…
كانت سحر أمّي وأختي وخطيبتي ورفيقتي وسندي وسبب بسمتي وأهدافي، وعلّمتني الصلاة والتقرّب من يسوع والعذراء مريم. منذ الحادثة الأليمة التي خطفت حبيبتي منّي، أصلّي مسبحتين أو ثلاث مسابح في اليوم الواحد… لقد انتقلت مع سحر في 4 آب 2020 وأستعدّ كي ألتقيها في السماء عندما يستعيد الله أمانته”.
لتكن مشيئتك يا ربّ!
ويؤكد جيلبير المفجوع بفقدان كنزه الوحيد: “خسارة حبيبتي سحر ليست مجرّد خسارة بل لقد فقدتُ كل شيء بعد رحيلها!
لم أعاتب الله، بل طرحتُ عليه العديد من الأسئلة: لماذا اخترتني أنا وأنت تعرف أنها كل شيء بالنسبة إليّ؟ كنت تعرف مقدار حبّي واهتمامي بها… كنت أرى الشمس تُشرق من عينيها، وأتجنّب أن أسبّب لها الحزن، وأقدّم لها كل ما تريده. لماذا أخذتها؟!
أعرف أنني مهما أحببتها، لن أحبّها بقدر محبّتك لها.
أسئلة كثيرة طرحتها لكنني أكيد أن الله يسيّر الأمور، ولا تسقط شعرة من رؤوسنا إلا بإرادته “شعرات رؤوسكم كلّها محصاة. لا تخافوا” (لو 12 :7)”…
ويختم جيلبير بالقول: “لقد اختار أجمل وردة لتزيّن بستانه في السماء وأنا راضٍ بحُكْمِه. رحيل سحر دمّرني لكن لا يمكنني إلا القول: “لتكن مشيئتك يا ربّ!”