باسمة بو سرحال
نَطَقْتُ بالحقّ، فعبَرت كلماتي من دون استئذان إلى قلوب المؤمنين. حملتُ يراعي، فانساب حبًّا بكنيستي ودفاعًا عن إيماني. لُقِّبْتُ بمعلّم الإفخارستيا، ونافوري صدح في الأماكن المقدّسة ممجِّدًا ربّي وإلهي. أنا القديس يوحنا الذهبي الفمّ، وهذه قصّتي مع يسوع.
———————————————————-
تنحني الرؤوس إجلالًا عندما يغوص الإنسان في حياة أبطال الإيمان أمثال القديس يوحنا الذهبي الفمّ، أحد أعمدة الكنيسة والآباء الأكثر غزارة في التأليف والوعظ، كما وصفه البابا بنديكتوس السادس عشر.
أبصر يوحنا النور في أنطاكية في القرن الرابع. كان والده سكوندوس قائدًا في الجيش الروماني، وكانت والدته القديسة أنثوسة سيّدة فاضلة رفضت أن تتزوّج بعد ترمُّلها في ريعان شبابها. فتفرّغت لتربية يوحنا وأخته تربية مسيحيّة، وأودعته لدى ليبانيوس، وهو أشهر بليغ وثني في تلك الحقبة ليتدرّب على البلاغة والمنطق. ثمّ درس اللاهوت والعلوم الكنسيّة على يد الأسقف ديودوروس.
ذاتَ يوم، قال ليبانيوس لتلاميذه مادحًا يوحنا: «كان في ودّي أن أختار يوحنا لإدارة مدرستي من بعدي، لكن المسيحيين سلبوه منّا».
بعد فترة على غياب والده، طرق الموت أيضًا باب والدته، هي التي بكت كثيرًا قبل رحيلها كي يبقى يوحنا إلى جانبها ويُرجئ تكرّسه لله، فكان لها ما أرادت.
إثر ذلك، هجر يوحنا العالم وانطلق في رحلة الصلاة والتأمّل وتأليف الكتب. تنسّك مدّة ست سنوات، متأمّلًا في عظمة الخالق قبل أن ينصرف إلى الخدمة الرعويّة ويرسمه البطريرك فلافيانوس كاهنًا ويسلّمه منبر الوعظ في الكنيسة.
خطف يوحنا الأضواء ببلاغته وبأسلوبه الرائع في شرح الإنجيل والكتب المقدّسة، فلُقِّبَ بالذهبي الفمّ، واعتُبِرَ الشاهد الأمين على تطوّر عقيدة الكنيسة في القرنين الرابع والخامس.
بعد وفاة بطريرك القسطنطينيّة، أجمع البلاط الملكي والشعب على انتخابه بطريركًا، فاستقبلته القسطنطينيّة بحفاوة قلّ نظيرها.
اهتمّ بالفقراء والمظلومين، هو الذي ظُلِمَ مرّات عدّة. وكان حكيمًا وصبورًا مع الذين عملوا ضدّه وخطّطوا لتنحيته.
بدأت الكنيسة الأنطاكيّة بالاحتفال بعيد الميلاد في أيّام القديس يوحنا الذهبي الفمّ، بعدما أقنع المؤمنين بأهمّية هذا العيد وعظمته إذ اعتبر أنّه لو لم يتجسّد الربّ يسوع المسيح لما كان صلب ولا أرسل الروح القدس، وما كان عيد الغطاس ولا الفصح ولا العنصرة.
أروع الكلمات خطّها القديس يوحنا الذهبي الفمّ بقلمه، وشكّلت أساسًا جوهريًّا استندت إليه الكنيستان الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة في بلورة الطقوس الليتورجيّة وكتابة القداس الإلهي.
«الصلاة سلاح عظيم» من أجمل أقوال الذهبي الفمّ الذي ارتكز طوال حياته على الحبّ باعتباره جواز السفر الذي به يعبر الإنسان كل أبواب السماء من دون أيّ عائق.
«ليكن الله مُمَجَّدًا في كل شيء» الكلمات الأخيرة ليوحنا الذهبي الفمّ قبل أن يسلم الروح في 14 أيلول 407.
تحتفل الكنيسة الجامعة بتذكار القديس يوحنا الذهبي الفمّ في تواريخ مختلفة، منها 13 تشرين الثاني من كل عام، طالبةً شفاعته من أجل تعزيز الإيمان ووحدة المؤمنين.
———————————————————-
أيها القديس يوحنا الذهبي الفمّ، يا من أضأت دروب الإيمان بكلماتك وفتحت أمامنا كنوز المحبّة والرحمة الإلهيّة، علّمنا أن نسير بثبات على خطى المسيح، حاملين صليبنا بإيمان ووداعة.
ليكن لنا قلبٌ يفيض حبًّا كالينبوع، وفمٌ يلهج بالحكمة كفمك الذي به تمجّد الربّ. ليملك السلام في قلوبنا، ولتغمرنا أنواره إلى الأبد.