غيتا مارون
نقش اسمه بأحرف من ذهب في تاريخ الفنّ الغنائي والمسرحي. حمل صوته الرصين رسائلَ إنسانيّة واجتماعيّة تخاطب القلوب والعقول على حدّ سواء.
في كل مسرحيّة شارك فيها، ترك بصمة تتجدّد وتتفرّد، مزج فيها بين الواقعيّة والفلسفة، محفّزًا الجمهور على التأمّل في ملامح المجتمع وأطيافه المتعدّدة.
نجمه سطع في سماء الفنّ اللبناني، متزيّنًا بصلابة الصوت وإتقان التمثيل الذي يأسر القلوب ويخطف الأنفاس.
منذ اعتلائه خشبة المسرح، أذهل الجماهير بحضوره وقدرته على تجسيد أقوى المواقف وأعمق المشاعر.
انطلقت مسيرته الفنّية من المسرح الغنائي، حيث أبدع في أعمال خالدة مثل «بترا» (الأخوان رحباني عام 1977)، و«حكاية أمل» (روميو لحود عام 1983)، و«صولد» (مروان نجار عام 1985)، فلمع في كل أدواره، مضيفًا لمسة سحريّة خاصة على العروض المسرحيّة.
استمر في تقديم أعمال باهرة مثل «صيف 840» (منصور رحباني عام 1987) و«الوصيّة» (منصور رحباني عام 1994)، و«هنيبعل» (غسان الرحباني عام 1995)، و«وقام في اليوم الثالث» (أسامة الرحباني عام 2000)، و«إمارة من هذا الزمان» (كركلا عام 2000)، فاحتلّ مكانة خاصة في قلوب الجمهور.
كما تألق في أعمال استثنائيّة، نذكر منها: «المتنبّي» (منصور رحباني عام 2001)، و«ملوك الطوائف» (منصور رحباني عام 2003)، و«جبران والنبي» (أسامة الرحباني عام 2005)، و«زنوبيا» (منصور رحباني عام 2007)، و«عودة الفينيق» (منصور رحباني عام 2008)، مضيفًا بريقًا جديدًا إلى مسيرته الفنّية.
إلى جانب توهّجه على خشبة المسرح، أبدع عبر الشاشة الصغيرة إذ شارك في مسلسلات تلفزيونيّة عدّة، منها «وأشرقت الشمس».
اليوم، هو لمّا يزل محافظًا على مكانته الرفيعة بفضل صوته الساحر وأدائه الجامع بين الاحترافيّة والروحانيّة، ما يجعله في طليعة الفنّانين اللبنانيين.
رصيده الفنّي ينطوي على 44 عامًا من الإبداع في الغناء والتمثيل، ولُقِّبَ بـ«خوليو العرب» لكن اللقب الأحبّ إلى قلبه هو «سيف بحر المسرح اللبناني».
إنّه الفنّان القدير غسان صليبا الذي يشارك «قلم غار» اختباره الإيماني الصلب والثابت.
الإيمان مصدر قوّة
يخبر صليبا عن تجلّي حضور الربّ في حياته، قائلًا: «ترعرعت في كنف عائلة مسيحيّة، واعتدنا الذهاب إلى الكنيسة أيّام الآحاد، فطبعت أسرتنا الإيمان في نفوسنا منذ نعومة أظفارنا، وما زلنا متمسّكين بتعاليم المسيح».
ويردف: «أمّا علاقتي بالربّ، فهي شخصيّة. لذا، لا أحبّ الغوص كثيرًا في هذا الجانب».
إلى ذلك، يتناول صليبا دور الله في الصعوبات، فيشرح: «الإيمان يمدّ الإنسان بالقوّة لمواجهة المشقات، والإنسان المؤمن يثق بأنّ الله يتدخّل دائمًا في مسيرته ليذلّل العثرات».
ويردف: «يجب على الإنسان أن يجتهد أيضًا، بدلًا من الاتكال على الله فقط من دون أن يبذل قصارى جهوده لتحقيق أهدافه. إنّ الإيمان مصدر قوّة لأنّه يمدّ الإنسان بالقدرة على مواجهة الصعوبات.
سعي المرء هو أيضًا جزء من الإيمان الذي زرعه فينا الربّ، ويجب على الإنسان أن يعمل حتى يحقق مراده».
أدوار أيقونيّة وأغانٍ مميّزة
من أهمّ الأدوار الروحيّة التي أدّاها صليبا دور المسيح في مسرحيّة «وقام في اليوم الثالث»، وهو يعتبره مهمًّا جدًّا إذ «جسّد شخصيّة الإله الذي نعبده ونؤمن بتعاليمه»، مضيفًا: «شعرت بأنّني أدّيت دوري في هذه المسرحيّة الرائعة غناءً وتمثيلًا كما يجب».
أمّا على الصعيد الشخصي، فيوضح: «لم يبدّل هذا الدور فيَّ شيئًا لأنّ إيماني هو نفسه وقناعتي بتعاليم المسيح هي عينها أيضًا».
من أحبّ الأدوار الأيقونيّة إلى قلبه «سيف البحر» و«المتنبّي» لأنّ سيف البحر هو الدور الأوّل الذي أدّاه في مسرحيّة «صيف 840» وحقّق نجاحًا لافتًا إذ إنّ هذه الشخصيّة غنيّة بالمواقف البطوليّة والتضحية في سبيل الوطن. كما أنّ المتنبّي شاعر عظيم، وقد سلّط الفنّان الكبير الراحل منصور رحباني الضوء عليه وقدّمه لنا في إطار مسرحيّة غنائيّة. وأحبّ صليبا هذا الدور لصعوبته وقيمته الثقافيّة، بحسب قوله.
بالنسبة إلى الأغنيات، باقة كبيرة منها هي الأحبّ إلى قلبه، على سبيل المثال «يا حلوة»، «أهل الأرض»، «وطني بيعرفني»، «غريبين وليل»، وسواها…
الفنّ الراقي في بلد مفكك
وسط التفلّت السائد في الأوساط الفنّية، يبقى صليبا من النخبة التي تحمل مشعل الفنّ الراقي وتحافظ على الرسالة والأصالة.
عن هذا الواقع، يقول «سيف بحر المسرح اللبناني»: «دولتنا مفككة. نحن نخسر القيم الإنسانيّة والتربية الوطنيّة والوعي لقيمة الإنسان وكرامته رويدًا رويدًا. أصبح الإنسان سطحيًّا في التعاطي وبات يتبع مسارات سلبيّة تؤمّن له لقمة عيشه من دون تعب وتفكير».
ويضيف: «لهذا الواقع أسباب عدّة: التربية في المنزل والمدرسة والجامعة والسلوك العام للدولة. كلّها تلعب دورًا في بناء جيل مهمّ. هذا ما نفتقده وهو أمر خطر لأنّ التربية، ولا سيّما الوطنيّة، تبني أجيال المستقبل وتجعل خياراتهم جدّية، سواء أكان في عالم الغناء أم في أيّ مجال آخر: الهندسة، التربية، التعليم… إنّ هذا الواقع ينعكس على القضايا الإنسانيّة في البلد».
أحلامٌ تعانق المستقبل
يحلم صليبا ببلدٍ مزدهر وعادل ونظيف، موضحًا: «أتطلّع إلى بلد يتمتّع حكّامه بنظافة الكفّ، ومواطنيه بسلوكٍ راقٍ، وأرضه ببيئة سليمة. يجب أن نكون مسؤولين ونحافظ على محيطنا. نحتاج إلى تربية وطنيّة وبيئيّة. لذلك، أدعو وسائل الإعلام إلى التركيز على هذه الجوانب، واعتبار الإنسان وصحّته العقليّة والجسديّة قضيّتها.
كما أدعو الحكّام في لبنان للنظر إلى تصرّف المسؤولين في الخارج، على سبيل المثال مساعدة بعض الوزراء عمّال النظافة للإشارة إلى أنّ مهنتهم شريفة. نحن بعيدون جدًّا عن هذه الثقافة».
أمّا على الصعيد الشخصي، فيحلم صليبا بأن يحقق ولداه النجاح الدائم وأن ينعما بالراحة في حياتهما. كما يرغب في ألا يغيب المسرح الغنائي، على الرغم من أنّ الظروف الاقتصاديّة والأمنيّة لا تشجّع على إنتاج أعمال فنّية ضخمة إذ إنّ أيّ خلل أمني يؤدّي إلى توقف العمل. ويرجو أن يستمر في إحياء الحفلات والمهرجانات.
ويرى أنّ الصيف الحالي انطلق بشكل جيّد، لافتًا إلى أنّه أحيا الشهر الماضي حفلة مهمّة ومميّزة في كازينو لبنان، وسيحيي حفلة أخرى لجمعيّة أمّ النور، فضلًا عن مهرجان جونية وسواه من المهرجانات والحفلات.
أغنيات عالميّة
ردًّا على سؤال عمّا إذا كان يعتبر أنّه خطا نحو العالميّة من خلال أعماله الفنّية، يقول صليبا: «إنّ اللغة تلعب دورًا كبيرًا في انتشار الأغنيات. اللغة العربيّة ليست منتشرة عالميًّا مثل اللغات الإسبانيّة أو الإنكليزيّة أو الفرنسيّة، فنلاحظ أنّ الفنّانين الذين يغنّون بهذه اللغات يحققون انتشارًا واسعًا (يصل إلى الصين واليابان). نحن نفتقر إلى هذه الإمكانيّة.
أرى أنّ العالميّة تتمثّل في مضمون العمل بحدّ ذاته. أعتبر أنّ الأعمال الفنّية القيّمة كتابةً وموسيقى، مثل أغنيتَي “وطني بيعرفني” و”أهل الأرض” وسواها، أغنيات عالميّة أو تتخطى المحلّية بمضمونها ومعانيها ولحنها وأدائها. أرى العالميّة من هذا المنظور. إذا تُرجمت هذه الأغنيات، تنتشر عالميًّا فورًا».
رسالة إلى اللبنانيين
يوجّه صليبا عبر موقعنا رسالة إلى اللبنانيين، قائلًا: «حافظوا على إيمانكم بأنّ بلدنا رائع ويجب أن نحافظ عليه وألا نتركه إلا إذا كانت الأسباب ملحّة. يجب أن نكون إلى جانب وطننا في كل المراحل. أنا متفائل بأنّ المستقبل سيكون جميلًا لأنّ الله أعطانا بلدًا يتمتّع بالمقوّمات التي تجعله أروع بلاد العالم على كل الصعد».
شكر دائم للربّ
يختم صليبا سرد اختباره عبر «قلم غار»، رافعًا الشكر إلى الله على الحياة بحدّ ذاتها، هذه النعمة التي أعطانا الربّ إيّاها لنحافظ عليها ونعيشها باستقامة ونحترم تعاليمه. ويحمده كثيرًا على عائلته وأقاربه وجمهوره الذي يحبّه ويشاركه نجاحه ويقدّره.