طوني لطيف
“وصيّتي لكم هي: أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم” (يوحنا 15 :12).
أرادها المعلّم أن تكون آخر وصيّة لتلاميذه بعد العشاء الأخير معهم، أرادهم أن يحملوا هذا الحبّ الذي أنعم به عليهم وامتلأوا منه؛ هو حبّ الربّ لشعبه، حبّ المسيح لناكِرِه، حبّ يسوع لأمّه. قد أحبّ الله العالم وأرسل له ابنه الوحيد، وتصالح معه، وجعل قوّة الحبّ التي بشّر بها ابنه تتغلّب هي أيضًا على حبّ الناس للخطيئة وحبّهم للكراهية، فباتوا جميعهم سكارى بقوّة حبّ المسيح لهم، مستسلمين لهذا السلام الذي حلّ عليهم، سلامٌ ما اختبروه يومًا بعيدًا عن الفادي.
منذ القديم، نمت غريزة حبّ إلغاء الآخر لدى الإنسان الذي بات أسيرها واستبسل في حروبه الدائمة من أجل فرض أيّ معادلة في التاريخ إذ احتكره الأقوياء، فباتوا يكتبون صفحاته بدماء الضعفاء، إلى أن أصبحت قوّة السيف لغة البشر ولعنتهم في الوقت عينه.
هي المعادلة نفسها تتكرّر منذ نشأة الكون، القويّ هو من يحكم ويسيطر، هو من لديه القدرة على أن يدمّر ويعبث في الأرض فسادًا، فيصبح الشخص خادمًا للخطيئة، وناسيًا قوّة الخالق التي كوّنته ليكون رسول حبّ وسلام في العالم.
هل أصبحت القوّة لعنة البشر؟؟؟
هل بات الإنسان ضعيفًا إلى هذا الحدّ؟؟؟
هل يستطيع المرء أن يقول “لا” للقوّة؟؟؟
يقول القديس أوغسطينوس: “إذا كنت تريد أن تعرف إذا كان فيك روح الله، فاسأل قلبك. إذا كنت تحبّ أخاك، فكُن في اطمئنان، لأن لا محبّة حقيقيّة إذا لم تتوطّد في الله.”
إذًا، من يعرف الحبّ الحقيقي ويلامسه هو الذي يعرف طريق الله، فالحبّ الصحيح هو وحده يتغلّب على هذه اللعنة التي تسيطر على الإنسان، فيتحوّل من شخص ضعيف تائه إلى آخر قويّ بحبّ الخالق. عندها يقف المرء متسلّحًا بقوّة الله، ويقول: “لا!”
يبدأ السلام الحقيقي طريقه من الذات، فتصبح تلك الذات أداة أساسيّة في حبّ الإنسان لغيره، ويعكس الحبّ الذي عرفه في محيطه وبين أهله، ما يجعله ينشر الوجه الحقيقي ليسوع المسيح، فيتعرّف المحيطون به على هذا المعلّم الذي أرادنا أن نكون على صورته ونحمل حبّه لنا إلى الآخر، وإن كان مختلفًا عنّا في كل شيء، وحدها لغة الحبّ هي التي تجمعنا وتوحّدنا تحت راية واحدة. عندئذٍ، تسقط أمام أقدامنا وأطماعنا جميع أنواع المحاولات المتكرّرة من حبّ القوّة الذي يذوب هو أيضًا أمام قوّة الحبّ التي وهبنا إيّاها المخلّص الذي أحبّنا حتى الموت.
ربّي، أنت من علّمتني أن أحبّ ووضعتَ ثقتك فيّ. علّمني أن أكون رسول حبّ دائم لك، وساعدني كي أعبر مع الآخر هذه التجربة الصعبة… نعم، هي كلمة صغيرة مؤلفة من حرفَيْن فقط، كلمة غيّرت وجه المسكونة، كلمة زرعت جذورها في هذه الأرض، كلمة بنت جسورًا للبشريّة، كلمة حملها معه ابنك الوحيد على الصليب. اجعلني يا سيّدي أن أحمل معي هذا الحبّ إلى نهاية عمري، فأنا لا شيء من دونه!