غيتا مارون
تصف نفسها بـ«ابنة الله» لأنّها تستمد وجودها من بنوّتها للربّ.
تابعت دراسات عليا في الترجمة، معتبرة أنّ الربّ صقلها عبر اختصاصها كي يخدم عملها الرسالة، ولتترجم محبّته في الوقت عينه.
درست اللاهوت، والتزمت في العمل الرسولي والرعوي منذ نعومة أظفارها؛ بدأت في الفرسان وطلائع العذراء، وتدرّجت في المسؤوليّات، فأصبحت مسؤولة عن فرق رسوليّة في وقت مبكر.
في السابعة عشرة، اختارت الالتزام في الحركة الرسوليّة المريميّة لأنّها وجدت في كنفها ملاذ قلبها وكلمة الله التي تشبع جوعها الداخلي، فضلًا عن حياة الجماعة، فاغتنت منها على مدى 25 سنة، واختيرت لتكون مسؤولة الهيئة العامة للشبيبة في لبنان لأربع سنوات.
هي مرنّمة، ومسؤولة الإعلام في مكتب راعويّة الشبيبة في الدائرة البطريركيّة-بكركي، ومستشارة في اللجنة التحضيريّة لجماعة «الرجاء» على مدى أكثر من 10 سنوات.
منذ العام 2007، هي ناشطة في رعيّة مار الياس-ديك المحدي، تهتم بإعداد الأولاد الذين يتحضّرون للقربانة الأولى.
اختبرت جرح انتقال طفلها ابن الشهرين إلى الحياة الأبديّة، لكنها تعتبر هذا الألم عابقًا بورود النعم.
إنّها نايا فضّول نصر التي تشارك «قلم غار» مسيرتها المفعمة بالتسليم المطلق لإرادة الله ولحبّه اللامتناهي في حياتها.
الله ينحت محبّته فيَّ
«قصّة حبّ، هكذا أعنون علاقتي مع الربّ. هذا الحبّ جعلني أكون ما أنا عليه اليوم، وأسلّم حياتي وتفاصيلها لله.
احتضنني الربّ منذ طفولتي. أتى بي من الإمارات العربيّة المتحدة حيث وُلِدْتُ وبقيت حتى سنّ الخامسة. نحت الله محبّته فيَّ وفي عائلتي لتتجلّى صورته… افتقدت العاطفة الأبويّة بسبب سفر والدي لكن الله ملأ هذا الفراغ بقوّة. لم يتمكّن أبي من حضور قربانتي الأولى، وطبع غيابه جراحًا في قلبي إلا أنّ الربّ داوى هذه الجراح وملأ بحبّه وحضوره الفراغ لأنّه أبي وحبيبي وسندي.
كان الله رفيقي في خطواتي والتزامي في قلب الكنيسة، ولمست حضوره الدائم في الصعوبات والتحدّيات. تعلّمت أن أسمع صوت الربّ، فيُفرّغ أناي وينحتني. من خلال الكتاب المقدّس وحياة الجماعة، أصغيت إلى صوت إلهي»، تخبر نايا.
أمنيات تتحقّق واختبارات مؤثرة
تتابع نايا سرد اختبارها بقلبٍ مفعم بالامتنان للربّ، قائلة: «حقّق الله أمنياتي، فوجدت شريكًا توافقت مواصفاته مع شروطي التعجيزيّة التي تلخّصت في الآتي: يجب ألا يبعدني زوجي عن الربّ، وألا يقصيني عن رعيّتي وقريتي، وأن يكون من الحركة الرسوليّة المريميّة كي يفهمني ويمشي في مسيرتي مع يسوع.
نعم، الربّ بارك أمنياتي، فارتبطت برجلٍ التزم في الحركة الرسوليّة المريميّة، واستمررت في خدمة كنيستي لأنّنا سكنّا في جوار رعيّتي.
في العام 2005، تزوّجنا وسلّمنا حياتنا إلى الله. بعد مرور 4 سنوات، حملت للمرّة الأولى لكنني فقدت جنيني.
بعد 5 سنوات، حملت للمرّة الثانية. حينذاك، عشت اختبارات مؤثرة كثيرة: عند السجود للقربان، كان الجنين يتحرّك في رحمي بطريقة غير طبيعيّة. شعرت بأنّني أعيش مشهديّة مريم العذراء وأليصابات، وقلت لولدي المنتظر: “يا ابني، أنتَ سعيد لأنّك التقيتَ يسوع حبيبك الذي تعرفه”.
كنت بصحّة جيّدة وأتممت فترة الحمل بسلام».
ولادة معمّدة بجلجثة
تروي نايا: «في 20 تمّوز 2010، عيد شفيع رعيّتي مار الياس، أبصر ابني جوزيف النور. قبل الولادة، خدمت القداس ورنّمت في الكنيسة.
في المنزل، وضعت المسبحة في يد جوزيف وصلّيتها معه في وقت إعداده للنوم مع الترانيم.
في إحدى المراجعات الطبّية، اكتشفنا أن طفلي يفقد وزنه على الرغم من أنّنا نقوم بما يلزم ونعطيه الغذاء الضروري. فرأى الطبيب أنّ لدى ابني حساسية على أحد مكوّنات الحليب، ما يوجب تغييره.
دخلنا مستشفيات عدّة حيث بقينا حوالى شهر. في هذا الوقت، حاول الطاقم الطبّي إيجاد تركيبة الحليب المناسبة لابني. في أحد المستشفيات، التقط طفلي فيروسًا في الرئتين. تحمّل الكثير، ولم يكن يبكي عندما يتألم. كان اختباره مؤثرًا جدًّا لأنّه أيقونة حيّة لنعمة الله وحضوره.
فعلًا، تحوّل المستشفى إلى كنيسة؛ كنا نلتقي (عائلات عدّة من طوائف وكنائس وأديان مختلفة) وشكّلت الصلاة مصدر قوّة في الفترة التي مررنا بها.
كنت أدخل قسم العناية الفائقة للأطفال، وأبقى قرب جوزيف، أرنّم وأصلّي معه. رفعت الصلاة أيضًا من أجل جميع الأولاد الآخرين.
في هذا الوقت، نحت الله فينا القداسة. مشينا الجلجثة؛ زوجي وأنا، صلّينا وطلبنا مشيئة الربّ.
نال جوزيف سرّ المعموديّة في المستشفى على يد عمّي المطران سيمون فضّول، أسقف أبرشيّة البشارة في أفريقيا.
بعد المعموديّة، تحسّن جوزيف لكن وضعه تأزّم في ما بعد».
«لقد تمّ!…»
بقلبٍ دامع وعينين مغرورقتين بالعبرات، تصف نايا لحظات وداع فلذة كبدها، فتقول: «في 21 أيلول 2010، شاركت في القداس، وتوجّهت إلى المستشفى.
دخل الطبيب مسرعًا غرفة العناية الفائقة. ثم قال: “خلص”. لقد أثّر الفيروس الذي التقطه ابني على رئتيه ومنع وصول الأوكسجين إلى الأعضاء، فلم يتحمّل قلبه… في تلك اللحظة: سمعت صوتًا يهمس في داخلي: “لقد تمّ!…”.
انهمرت دموعي كنبع حنان متدفّق… ساد الصمت كأنّها رياضة روحيّة، وقت مقدّس. لا صوت للوجع؛ لمسنا حضور الله، وشعرنا بأنّ السماء احتضنتنا.
دخلت غرفة العناية الفائقة؛ كان جوزيف نائمًا… اقتربت منه وعشت الجلجثة في تلك اللحظات الرهيبة لكنني شعرت بأنّ يسوع المصلوب أمامي، ولمست حضور مريم أمّي بقوّة لأنّني دأبت على الصلاة دومًا.
تراءت مشهديّة الجلجثة أمامي… اقتربت من جوزيف، جعلت وجهي قرب وجهه الصغير، أمام قلبه. بدأت حديثًا خاصًا مع يسوع: “أنا أثق وأؤمن بأنّك إذا أردتَ أن تشفيه الآن، فأنت قادر. أمّا إذا أردت أن يكون معك في السماء، فلتكن مشيئتك!”.
وتضيف نايا: «قبل تلك الليلة، كنت قد استودعت ابني الربّ، قائلةً: أريد أن أقدّم لك جوزيف، إذا أردته معك في السماء، ذبيحةً على نيّة شفاء الأطفال الموجودين في العناية الفائقة. ليست قوّتي التي جعلتني أنطق هذه الكلمات بل نعمة الله.
حملت صغيري، وضممته إلى قلبي. رافقتني السماء وحملتني»…
قلبي يدخل السماء معه
تواصل نايا سرد اختبارها، قائلة: «شكرت الجميع. أعددت عرس جوزيف وطلبت من الأهل عدم البكاء. ألبست ابني، وطلبت من الجميع الصلاة من أجله. رتّلنا وشاركنا في القداس. شعرت كأنّ ذخائر القديسة تريزيا الطفل يسوع حاضرة معنا إذ غمر الورد الملوّن المكان. لم أرتدِ الأسود أبدًا، وارتسمت البسمة على وجهي. أنا وابني عرفنا هذه الحقيقة: في اللحظة التي دخل فيها السماء، دخل قلبي السماء أيضًا. حينها، امتلأتُ سلامًا ورجاءً وابتهاجًا وحبًّا.
كان انتقال جوزيف إلى الحياة الأبديّة فرحًا وعرسًا. لقد أعطاني الربّ نعمة كبيرة لا أستحقّها، وهي أن يكون ابني في حضرة الله، معه وجهًا لوجه. هذا ما ألمسه وأشعر به.
منذ تلك اللحظة حتى اليوم، أنا أعيش حالة رجاء، وأفرح فعليًّا وأضحك من كل قلبي وأنثر سعادة أكثر من السابق.
مررت بهذا الاختبار الذي يشعر فيه المرء بأنّ الحياة انتهت. بالنسبة إليَّ، الحياة أشرقت عندما بدأت حياة ابني في السماء. لذلك، أشهد لهذه الحقيقة، وأشهد لقيامة الربّ وقيامة أحبّائنا وحضورهم معنا في كل لحظة من حياتنا.
أنا لا أشتاق لابني لأنّه حاضر معي دومًا».
جرحٌ يستحيل عبق ورود
تتابع نايا شهادتها لحضور الله المعزّي في حياتها، فتقول: «أصبح جرح قلبي شبيهًا بجرح قلب يسوع الذي كان يدفق حنانًا وحبًّا. لأنّ حضور الله احتضننا ونعمته غمرتنا، تبدّل الألم، واستحالت رائحة الجرح عبق ورود.
لم يكن انتقال جوزيف الألم الأكبر في الحياة لأنّ الوجع الأشد هو البعد عن الله والجفاف الروحي وعدم إيجاد تعزية.
وتختم نايا مشاركة اختبارها عبر «قلم غار»، رافعةً الشكر إلى الله على وجوده، وعلى كل شيء في حياتها. وتحمده لأنّه أحبّها وجعلها تلمس حبّه دائمًا.
وتضيف: «عندما نحبّ الربّ فعلًا، نثق بأنّ “كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبّون الله” (رو 8: 28). أشكره على كل مرّة يكشف لنا أن حدودنا ليست الأرض. هذا الكون كلّه بيت أبي، والربّ يحتضننا بحبّه وحنانه.
في قلب المعركة، إلهي مخلّصي. الله لا يجرّب. الشرير يجرّب. الله لم يأخذ ابني. الله استقبل ابني، خلّصه، أقامه، وحفظه في سماواته. أنا أشهد لهذه الحقيقة، وأشكره على نعمته: شكرًا يا ربّ على كل الحبّ!».