إلسي كفوري خميس
حملت صليبًا ثقيلًا وهي لمّا تزل شابة تخطّط لمستقبلها ومصير عائلتها.
في 4 آب 2020، اختبرت وجعًا ثلاثي الأبعاد بعد خسارة الزوج والأخ والقريب. فقدت نصف عائلتها بلمح البصر، ودفنت أشلاء أحبّائها مرّتين.
هي التي هزّت صورتها العالم في وداع شهداء قرطبا، ضحايا تفجير مرفأ بيروت في أثناء قيامهم بواجبهم الإنساني ضمن فوج الإطفاء، فكانت الصورة أصدق تعبير عن الألم الكبير الذي يعتصر أعماقها، وما زالت تعيشه على الرغم من مرور أربع سنوات على الفاجعة.
إنّها كارلن حتي كرم التي تروي لـ«قلم غار»، بقلبٍ محروق، شهادتها المؤثرة المثقلة بوجع خسارة زوجها شربل كرم، وشقيقها نجيب حتي، وابن عمّها شربل حتي، ودور الإيمان والرجاء في انتشالها من كبوتها.
جروح لم تلتئم
4 آب 2020 يوم مشؤوم لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة الجماعيّة مهما مرّ عليه الزمن، فكيف بالحريّ يُلغى من ذاكرة عائلات الضحايا التي ما زالت تتذكّر تفاصيله في يوميّاتها. تقول كارلن: «صحيح أنّ هذا النهار مضى منذ 4 سنوات، لكننا ما زلنا نعيشه بسوداويّته. كل لحظة من حياتنا تذكّرنا به. ولا يمكن أن ننسى مشاهد الدماء والفوضى والوجوه اليائسة ورحلة البحث عن الشباب الثلاثة. الوجع كبير جدًّا، ولم تخفّ حدّته مع الوقت إنّما زاد أضعافًا وأصبح أكثر إيلامًا. وجع الفراق صعب جدًّا. وكلّما اعتقدنا أنّ قلبنا “بَرَدَ” وجرحنا طاب، نكتشف العكس تمامًا؛ نلمس أنّ شوقنا إليهم يزداد أكثر فأكثر».
تؤكد كارلن أنّها لم تتخطَّ -ولو جزءًا بسيطًا- من هذا الألم الكبير، مضيفة: «الأمر الوحيد الذي ساعدني على التأقلم مع وجعي أو التعايش معه يتمثّل في ابنتيّ والوجود الروحي للشباب معي». وتستطرد مفسّرةً: «عندما أواجه مشكلة ما أو أفتش عن تفسير لأمر حصل معي، أحصل على الجواب منهم بطريقة معيّنة. أشعر دائمًا بوجودهم. ألجأ إليهم أحيانًا كثيرة وأطلب منهم أمورًا كنت أظن أنّها مستحيلة لكنها تتيسّر وتتحقق. وجودهم الروحي نعمة إلا أنّني أشتاق إليهم وإلى معانقتهم ووقوفهم بجانبي».
شوق طفلتين وافتقاد شريك
لكارلن ابنتان، الكبرى أنجيلينا عمرها ست سنوات ونصف السنة، والصغرى كاترينا تبلغ الخامسة من عمرها في أيلول المقبل. تقول إنّها تفتقد لزوجها في كل لحظة لكن أكثر اللحظات التي تتمنّى لو كان إلى جانبها هي لدى خلود ابنتيها إلى النوم، فهما «تسألان عنه كثيرًا، يوميًّا قبل النوم، وعن عمله وسبب رحيله…». لقد تقبّلتا فكرة أن والدهما لم يعد موجودًا وصار في السماء. وهما تصلّيان له دائمًا. وأينما ذهبتا، تسألانني ما إذا كان يرافقهما، لكنهما تشتاقان إليه كثيرًا لدرجة أنّ ابنتي الكبرى تتمنّى أن يزورها في الحلم لكي تراه. أصبحتا أكثر وعيًا واستيعابًا لفكرة عدم وجوده، لكنهما لا تستطيعان تخطّي غيابه».
كان وزر تربية أطفال من دون شريك ثقيلًا جدًّا على كارلن التي شعرت بالخوف الشديد في الفترة الأولى، كما تؤكد، لكن «بمعونة أسرتي وعائلة زوجي -أحمد الله على وجودهم بقربي-، استطعت أن أكمل حياتي وأحمل هذا العبء».
على الرغم من الوجع الذي يرافقها دومًا، كان عليها أن تكون قويّة لأجل ابنتيها وأن تتدارك الوضع. «لا شيء يمكن أن يعوّض فقدان الأب أو الخال أو ابن العم، لكنني أحاول قدر المستطاع أن أملأ هذا الفراغ في حياتهما»، تقول كارلن.
هل الشفاء مستحيل؟
«لا يمكن لأيّ شخص أن يُشفى من جرح عميق مماثل»، تجزم كارلن. من ثم تستطرد مضيفة: «أستمدّ القوّة من الصلاة والإيمان ووقوف العائلة إلى جانبي».
وتتابع: «في الفترة الأولى، كنت أغضب كثيرًا عندما يقول لي الناس: “الله يصبّرك”. وأسأل نفسي: “كيف سأحتمل الألم؟ كيف سأعرف الرجاء في حياتي؟”. لكن مع الوقت، اكتشفت أنّ الإيمان والصلاة وحضور العائلة من أهمّ الأمور التي جعلتني أصمد، وساعدتني على الاستمرار… عندما أشعر بأنّني سأنهار، أصلّي وألتجئ إلى الربّ وإلى الشباب، وأطلب منهم المساعدة. وفورًا، أشعر بقوّة عجائبيّة غريبة أعجز عن تفسيرها. وجودهم الروحي إلى جانبي أقوى من أيّ شيء في حياتي».
خطوة تخفّف الألم
تقرّ كارلن -بكل فخر- بأنّها لجأت إلى العلاج النفسي، هي وابنتاها وعائلتها. وتنصح كل شخص «يختبر الألم أو الصدمات أن لا يتردّد في الخضوع للعلاج لأنّه يساعد كثيرًا».
وتردف: «بالنسبة إليَّ، كان العلاج النفسي أساسيًّا لأتأقلم مع وجعي». وتشير إلى خضوع جميع عائلات الشهداء لجلسات نفسيّة جماعيّة مكثّفة، مضيفة: «لقد ساعدنا العلاج النفسي على الاتحاد مع بعضنا البعض ومدّنا بالقوّة وشكّل لنا نوعًا من التعزية. وما زلنا حتى الآن نخضع للعلاج الذي بدأناه مع الجمعيّة اللبنانيّة لضحايا الإرهاب بعد حوالى 4 أشهر من الانفجار».
المسامحة وعدالة الأرض
بغصّة، تؤكد كارلن: «لا أقوى على الغفران ولا يمكن أن أسامح قبل معرفة المجرم الحقيقي ومعاقبته». وتضيف: «هناك خيط رفيع بين المسامحة والعفو. يمكن أن نسامح بمعنى أن لا نُبغض، لكن لا يمكن أن نفعل ذلك قبل معرفة من قتل أحبّاءنا. عندها، يمكن أن نرتاح».
تؤمن كارلن بشعار «لا يموت حق وراءه مطالب». هي ما زالت، وباقي عائلات ضحايا الانفجار، متمسّكة بتحقيق العدالة على الأرض، على الرغم من كل ما حصل في ملف التحقيقات. تتابع جازمة: «سنسعى إلى معرفة الحقيقة، ولن نسمح بإقفال هذا الملف وبنسيان تلك الفاجعة التي أفقدتنا أغلى ما لدينا». وتكمل: «عندما تكبر ابنتاي، ستسألانني عمّن قتل والدهما لأنّهما ستدركان أنّ ما حصل لم يكن مجرّد حريق. أمّا أنا، فبِمَ أجيبهما: “لا أعرف؟ أو لم نستطع أن نعرف؟”. على الأقل، يجب أن نحاول معرفة الحقيقة».
عبرات وعبر
عاتبت كارلن الربّ كثيرًا على هذا الصليب الثقيل الذي حملته باكرًا، وكان أكبر منها ومن طاقتها. تقول: «لم أكفر يومًا لكن غالبًا ما أسأل الله: “لماذا أنا؟ وماذا تريد منّي عبر هذا الصليب؟”. وقد أتاني الجواب من حوادث صغيرة حصلت معي. واكتشفت أنّ تجربتنا المريرة تحوّلت عند أشخاص آخرين إلى شعلة أمل».
وتضيف شارحة: «التقيت بسيّدة لا أعرفها، أخبرتني أنّها كانت مريضة سرطان وقت الانفجار، وأنّ الأطبّاء أبلغوها بأنّ العلاج صعب جدًّا، ولا أمل من الشفاء، لكن ما حصل معنا مدّها بالقوّة، واستطاعت من خلال ذلك أن تُكمِل علاجها وتُشفى. بهذه الطريقة، تمكّنت من أن ألمس نعمة الله في حياتي، وأن أبلغ ولو جزءًا من سلام داخلي افتقدته يوم الانفجار».
تخونها الدموع لدى سؤالنا عن رسالتها إلى الشباب الثلاثة، وتسود لحظات من الصمت قبل أن تنطق بصوتٍ يرتجف: «ابقوا معنا. أنا أحبّكم. وسأبقى إلى جانبكم دومًا». وتضيف بحسرة: «أنا أصلّي من أجلهم وأعتبرهم شفعاء لي عند الربّ».
تختم كارلن شهادتها المؤثرة عبر «قلم غار» بشكر الله على ابنتيها، قائلة: «هما أكبر نعمة في حياتي»، وتشكره على وجودهما لكي يبلسما جروحها. كما تحمد الربّ على القوّة التي يمدّها بها، وعلى حضور عائلتها في حياتها، وعلى كل شخص وقف إلى جانبها ودعمها في تلك الفترة العصيبة.