غيتا مارون
إهداء إلى روح الأب الشهيد رغيد كنّي
******************************************
3 حزيران 2007 هزّ العراق والعالم بأسره!
كاهنٌ شاب يبلغ 35 عامًا يتصدّى للإرهابيين، عقب الاحتفال بالقداس الإلهي في كنيسة الروح القدس في الموصل، بوداعة وجرأة قائلًا: «كيف تريدون أن أغلق بيت الله؟».
لم يغلق بيت الله، فلم ترحمه يد الشرّ، وأطلقت عليه وابل رصاص أرداه شهيدًا، لكن الملكوت فتح أبوابه على مصراعيها لاستقبال بطل الإيمان وابن الأصالة.
تشبّث بالإنجيل، فلم يخشَ الموت، متمسّكًا بالآية الآتية: «لا تخافوا الذين يقتلون الجسد، لكنهم يعجزون عن قتل النفس، بل بالأحرى خافوا القادر أن يهلك النفس والجسد في جهنّم» (متى 10: 28).
كتب شهادته بدمه لأنّه أحبّ يسوع المسيح بكل جوارحه، فبذل روحه من أجل خلاص مواطنيه.
عشق الصليب أمس، وها هو يعانق المصلوب اليوم!
استشهد أمس، وها هو قائم مع المسيح القائم من الأموات، يسير على درب القداسة اليوم!
أخبر أهل الموصل عن يسوع أمس، وها هم المؤمنون يخبرون عن شذا الكاهن العراقي الطيّب اليوم!
إنّه خادم الله الأب الشهيد رغيد كنّي الذي ضحّى بنفسه في سبيل أحبّائه. فهل من حبّ أعظم من ذلك؟
بفرحٍ عظيم يعادل بهجة إليصابات حين عانقت مريم العذراء، يشارك «قلم غار» قرّاءه العرب والأجانب شهادة عائلته التي تختصر كل شهادات الحياة في العراق لأنّ الأب رغيد كنّي أحد أبرز شهداء الكنيسة الكاثوليكيّة في البلاد العربيّة.
تتهلّل صفحات موقعنا فرحًا بلقاء والدة الأب الشهيد رغيد كنّي كرجيّة وشقيقته رغد.
الأمّ والشقيقة تشهدان، للمرّة الأولى في الإعلام الرقمي عبر «قلم غار»، لقصّة حبٍّ مضرّجة بالدماء الطاهرة وعابقة بصفاء روح تمسّكت بالمسيح حتى النفس الأخير.
طفولة تفيض بالإيمان
وُلِدَ الأب رغيد كنّي في 20/01/1972 في الموصل، وله 5 إخوة هم غادة وفراس وإيناس ورغد وغدير.
منذ نعومة أظفاره، كان الأب رغيد مثالًا للشاب المؤمن الملتزم في الكنيسة بكل جوارحه. تخبرنا والدته كرجيّة عن طفولته إذ أمضى معظم وقته في الكنيسة ومع الراهبات حتى إنّه بدأ يشارك في النشاطات الروحيّة منذ الصف الرابع الابتدائي. تقول أمّه: «علمتُ بأنّ ابني مدعوّ إلى الخدمة في حقل الربّ. شعرت بذلك في أعماقي من دون أن يخبرني. كنت متأكدة أنّه سيصبح كاهنًا!».
قلب الأمّ دليلها
لم يكن الأب رغيد يتحدّث عن قراراته، ولا سيّما إذا قطع وعدًا بالتزام الصمت حيال مسألة معيّنة. في أحد الأيّام، تلقّت والدته اتصالًا من الأخت عطور يوسف لتسأل عن رغيد الذي كان ما زال في الكنيسة، وبشّرتها بأنّ ابنها قد حُجِزَ له مقعد في روما، ما يوجب عليه إعداد أوراقه والانطلاق في مسيرته الكهنوتيّة.
لم يُطلِع رغيد والدته على هذه البشرى لوعده بعدم إفشاء السرّ الذي شاركه مع المطران كوركيس كرمو والأخت عطور يوسف.
تردف كرجيّة: «ذات يوم، قال والده: “لنفتح له محلًا كي يعمل فيه، ولنزوّجه بعدها”. أجبته: “رغيد لن يتزوّج!”. استوضحني السبب. فقلت: “ابنك يريد أن يصبح كاهنًا”. وحين سألني إذا ما أخبرني بذلك، أجبته: “لا، لكنني واثقة من أنّ رغيد سيكرّس حياته لله!”.
نعم أبديّة للربّ!
في العام 1996، انطلق الأب رغيد إلى إيطاليا ليستهلّ دراسته الكهنوتيّة، حيث أمضى 6 سنوات قبل أن يُرسم كاهنًا في 13 تشرين الأوّل 2001. تصف والدته يوم رسامته الكهنوتيّة في كاتدرائيّة مار بطرس الفاتيكانيّة بتأثُّر: «كان يوم فرحي الأعظم. بلغتُ قمّة السعادة!».
العودة إلى العراق
على الرغم من الظروف الصعبة التي عانى منها العراق، أصرّ الأب رغيد على العودة من أجل خدمة أبناء بلده. لم يأبه للمخاطر المحدقة بالعراق المتألم، وحين نصحه والده بعدم الرجوع إلى مسقط رأسه، أجابه: «إذا لم أرجع، هل يصبح العراق من دون كهنة؟ هل يتخرّج الآباء العراقيّون، ويتوجّهون إلى الخارج؟ إنّ العراق يحتاج إلينا».
في العام 2003، عاد الأب رغيد إلى بلاده ليخدم في رعيّة مار بولس، وثمّ في رعيّة الروح القدس حيث ارتقى شهيدًا.
تستذكر والدته سنوات خدمته الكهنوتيّة، قائلة: «كانت تلك الأعوام مفعمة بالعطاء. ليته لم يعد إلى العراق…» لكنها علمت في أعماق ذاتها بأنّ شهادته خالدة.
كانت تلك الفترة في العراق مشحونة بالصعوبات والتهديدات، لكن الأب رغيد التزم الصمت، مكتفيًا بالقول إنّها نابضة بالبركات والنعم.
واجهت الرعيّة آنذاك تحدّيات كبيرة وبلغ عدد العائلات فيها 900 حين تسلّم الأب رغيد مهمّاته.
في هذا السياق، تقول رغد، شقيقة الأب رغيد: «السنوات التي رُسِمَ وخدم فيها صعبة جدًّا لأنّها جاءت بعد سقوط العراق، حيث عانى المسيحيّون من تهديدات مستمرة، وعمليّات قتل وذبح. مع ذلك، كانت الكنيسة تضجّ بالنشاطات إذ أُطلقت أخويّات للأطفال وكبار السنّ، ما يدلّ على روح الصمود والتكاتف في مواجهة المحن».
فضائل الأب الشهيد رغيد كنّي
كان الأب رغيد مُحِبًّا للجميع ويسعى دائمًا إلى خيرهم، وصامتًا كتومًا، وخدومًا يستجيب بسرعة لحاجات الكنيسة ولا يتوانى عن تقديم المساعدة، بحسب والدته كرجيّة.
بدورها، تؤكد رغد: «منذ شبابه، تحلّى أخي بهذه الفضائل، ولا سيّما اهتمامه بالفقراء وبحاجاتهم. لم يكن يشارك تفاصيل أعماله الخيّرة، وكثيرًا ما كنا نسمع عن أفعاله من الآخرين بسبب صمته».
مَن شفيع الأب رغيد؟ ربطته بمريم العذراء علاقة وثيقة، فهي شفيعته ورفيقته الروحيّة. كان يصلّي لها دائمًا ويسعى إلى إرضائها بأعماله.
هل عرف خادم الله لبنان؟ لم يزر لبنان لكنه عرفه. له أصدقاء لبنانيّون، مثل الأب بطرس روكز الذي رثاه بترنيمة تحمل عنوان «كاهن الحبّ المثالي».
لم يكن الأب رغيد يقضي وقتًا طويلًا مع أسرته لأنّه انكبّ على خدمته الكنسيّة، ما جعلها لا تعلم إلا القليل عن مهمّاته الرعويّة.
ماذا حصل يوم الاستشهاد؟
تروي رغد ما جرى في 3 حزيران 2007، يوم استشهاد شقيقها الأب رغيد، قائلة: «كنا مهدَّدين بالقتل، فانتقلنا من الموصل إلى قريتنا كرمليس.
كان أخي في صدد تجديد جواز سفره، استعدادًا للتوجُّه إلى روما من أجل متابعة دراسته. قال لأمّي يومها: “سأتناول الغداء معكم”. ثم، جاء إلى منزلنا حاملًا صورًا. دعته والدتي للبقاء ومشاركة الضيوف الغداء، فقال: “لا، سأتغدّى مع الحرس في كنيسة الروح القدس. عليَّ إنجاز بعض الأمور قبل القداس”.
ثم عاد بالسيّارة إلى المنزل بعدما مشى قليلًا. أعطى والدتي الصور التي كانت في حوزته، قائلًا: “اخترت لكم هذه الصور كي لا تحتاروا في جنازتي”. صُدِمَت أمّي، وسألته عن سبب تلفّظه بهذه الكلمات، فأجاب: “حضّرتُ لكم صورًا مسبقًا لأنّنا احترنا في اختيار صورة لجنازة الخوري جبرائيل باكوس بعد وفاته”».
تردف رغد: «لم نعرف إن كان يمزح حينها أم يستشعر الأحداث. بعدها، عاد إلى الموصل، وتناول الغداء مع الحرس، وأنهى مهمّاته، واحتفل بالقداس الإلهي. ذهبنا، أنا وابنة عمّتي وصديقاتنا، إلى الكنيسة للمشاركة في الذبيحة الإلهيّة، وخدمناها. بعد انتهاء القداس، عدنا إلى منزل عمّتي القريب من الكنيسة.
فجأةً، سمعنا صوت إطلاق رصاص كثيف. شعرت بالقلق، وقلت لابنة عمّتي: “هناك أمر خَطِر حدث”. حاولت تهدئتي قائلة: “لا تخافي! نحن نسمع أصوات إطلاق النار يوميًّا”».
«كيف تريدون أن أغلق بيت الله؟»
بقلبٍ فائض بالألم والرجاء، تواصل رغد سرد تفاصيل ما حدث يوم الأحد 3 حزيران 2007: «توجّه زوج عمّتي إلى مكان الحادث بعد علمه بمقتل أشخاص هناك. كان المشهد مؤلمًا إذ لم يعرف ماذا يفعل. قال لعمّتي: “اخترب بيتنا وبيت خيّك” لأنّ ابنها الوحيد الذي كان مع الأب رغيد حينذاك قُتِلَ أيضًا. وعندما سألته عمّتي: “لماذا لم تأتِ بهم؟”. أجابها: “مين بدّي أشيل؟ ابني أم ابن خيّك اللي هو ابني كمان؟”».
تتابع: «كانت بيان بلله، زوجة الشمّاس وحيد، شاهدة عمّا جرى، فَرَوَت ما حدث: “عندما خرج المتطرّفون من الجامع، قالوا للأب رغيد: “كم مرّة قلنا لكَ أن تغلق أبواب هذه الكنيسة؟”، لكنه ردّ بهدوء وابتسامة: “كيف تريدون أن أغلق بيت الله؟ حتى لو دخل شخص واحد فقط إلى بيت الله، لن أغلقه”…
علت هتافات التكبير، ثم أطلقوا الرصاص من دون رحمة. قتلوا الأب رغيد… حاول بسمان أن يحميه بإلقاء نفسه عليه، لكنهم قتلوه أيضًا”…».
وتردف: «أمّا بيان، فلم تُصب بأذى، لكنها فقدت وعيها من شدّة الخوف. وعندما استفاقت، كان المهاجمون قد غادروا بسيّاراتهم».
خبر الاستشهاد يبلغ العائلة
تتابع رغد إخبارنا بهذه اللحظات الأليمة: «كانت بيان أوّل من علم باستشهاد الأب رغيد مع ثلاثة شمامسة هم وحيد حنا إيشو وبسمان اليوسف وغسان بيداويد، فأبلغت الجميع بما حدث. كذلك، عرف الحراس في كنيسة الروح القدس بالاستشهاد فور وقوعه، فاتّصلوا بالمطرانيّة لإبلاغها بما حصل. بسبب الخطر المحدق بالمسيحيين، لم يستطع أحد الاقتراب من الجثث على الفور إذ بقيت سيّارات القتلة تجوب المنطقة حتى الساعة التاسعة مساءً. لاحقًا، نُقِلَت الجثث إلى الكنيسة.
منعتنا مجموعة من الشباب في الكنيسة من الخروج، خوفًا من تزايد المخاطر. في تلك الأثناء، أتى إخوتي من القرية لكن عمّتي توسّلت إليهم ألا يذهبوا إلى مكان الحادث كي لا تفقد العائلة المزيد من أفرادها.
«لم نرَ الجثث حتى اليوم التالي»، تروي رغد، مضيفة: «الأخت عطور غسلت الجثث وكفّتنها. هذه الراهبة البارّة رافقت الأب رغيد منذ صغره حتى استشهاده… ذلك المشهد المؤلم لن يهجر ذاكرتي: أخي مضرّج بدمائه المسفوكة على الأرض».
هكذا خاطبتا الربّ…
بعد استشهاد الأب رغيد، ماذا قالت والدته وشقيقته للربّ؟
تروي رغد: «كنت في حالة صدمة، ولم أستطع البكاء. في الجنازة، تعجّب المعزّون من اكتفائي باللجوء إلى الصلاة وسألوا عن سبب عدم بكائي. فأجبتهم: “البكاء ممنوع! اقرأوا الإنجيل وصلّوا! لمَ البكاء والندب؟ أخي قديس! اشكروا الله، وصلّوا! شهداؤنا بحاجة إلى صلواتنا، ونحن بحاجة إلى صلواتهم! فلماذا نبكي؟ فلنُصَلِّ. الربّ سيمنحنا التعزية!».
من جهتها، تخبر أمّ رغيد: «عندما عدت من الكنيسة، قال لي ابني الصغير: “ماما، يقولون إنّ أخي رغيد قُتِلَ!”… أجبته: “كنت أعلم أنه سيُقتل!”.
لطالما حذّرت ابني قائلة: “أنت مهدّد شخصيًّا، انتبه!”. لكنه كان يردّ: “لا، إنّ كل الكنائس مهدّدة!”…
لم يكن يتحدّث عن الوضع الخطر أمامي لأنّه يعلم بمدى قلقي عليه إلا أنّني أكدت له مرارًا: “أنت مستهدف شخصيًّا، وقد يقتلونك. أرجوك، انتبه!”. وكان يهدّئ من روعي قائلًا: “لا تخافي! العذراء إلى جانبي!”. فكنت أردّ: “لتحرسك مريم العذراء وتحميك بإذن الله!”.
عندما أخبروني باستشهاده، قلت لأقاربي: “أنا أعلم مسبقًا بمصيره لأنّ المتطرّفين طلبوا منه مرارًا أن يغلق أبواب الكنيسة، لكنه لم يذعن لتهديداتهم!”».
وتؤكد كرجيّة أنّها رفعت الشكر للربّ، إثر استشهاد ابنها، قائلة: «الحمد لله والشكر لك يا ربّ! نحن نقبل مشيئتك!».
ماذا عن ملفّ تطويب الأب رغيد؟
تخبر والدة رغيد وشقيقته أنّ الدعوى قيد المتابعة.
تروي كرجيّة: «قبل سنتين، زار وفدٌ من الولايات المتحدة والفاتيكان قريتنا في العراق. فتحوا القبر وأخرجوا الجثامين التي كانت قد تحلّلت. أخذوا ملابس الأب رغيد، ووضعوها في علبة زجاجيّة، وختموها بالشمع الأحمر».
وتردف: «طالب الدعوى المطران فرنسيس قلابات المقيم في الولايات المتحدة الأميركيّة استند إلى شهادتنا ومعلوماتنا في متابعة الملفّ».
رسالة من القلب إلى الأب الشهيد
من القلب، تُوجّه كرجيّة رسالة إلى ابنها الحبيب قائلة: «ليتني كنت مكانك!… أطلب شفاعتك من أجل إحلال السلام في العالم…».
بدورها، تفصح رغد عن الرابط الروحي الأبدي الذي يجمعها مع أخيها: «أنا أطلب شفاعته كل ليلة. أخاطبه قائلة: “أرشدني إلى الطريق الصحيح”. أكلّمه عن يوميّاتي، وأقول له: “إذا أخطأت، زرني في الحلم وأعطني علامة”. عندما أشعر بأنّه غاضب مني، أسأله: “كيف أصالحك؟”. يجيبني: “تعرفين الجواب”. فأراجع نفسي وأدرك أنّني ارتكبت خطأً يجب تصحيحه. وحين أصالحه، يغمرني فرحٌ لا يوصف في القداس، بخاصة عند تناول القربان الأقدس.
كان الأب رغيد قريبًا جدًّا مني، ولا سيّما أنّنا دائمًا معًا في الكنيسة. لطالما شعرت بأنّه أبي الروحي.
في العام 2004، أُصبت نتيجة إلقاء قنبلة في الكنيسة. بعد خضوعي للعمليّة الجراحيّة في المستشفى، جلس رغيد قربي باكيًا، وقال: “الحمد لله أنّك الوحيدة المصابة. أنتِ أختي، وتتحمّلين الألم…».
رواية الأب صباح كمّورة
تستشهد رغد بما أخبره الأب صباح كمّورة عن واقعة حصلت مع شقيقها في 28 أيّار 2007، أي قبل 7 أيّام من استشهاده: «قرّر راعي أبرشيّة الموصل المطران الشهيد بولس فرج رحّو القيام برحلة مع الكهنة إلى شمالي العراق. انطلق الوفد صباحًا من مدينة الموصل إلى منطقة قريبة من مدخل دهوك.
تشارك الجميع الأحاديث والصلوات والغداء. في فترة الاستراحة، بقي قسم من الكهنة في مكانه، وتسلّق القسم الآخر الجبل المحاذي للموضع. من ثم توقّف القسم الثاني عن التسلّق، وقرّر العودة. لكن الأب رغيد فضّل إكمال مشواره صعودًا، واختفى عن الأنظار.
سأل المطران الشهيد رحّو الكهنة عن مكان الأب رغيد، قائلًا: “لماذا تركتموه وحده؟”…
بعد 3 ساعات، عاد الأب رغيد متعبًا إلا أنّه بقي متماسكًا.
قال له المطران رحّو: “لقد أقلقتنا عزيزي!”. أجاب الأب رغيد: “قرّرت تسلّق الجبل وحدي لأبلغ قمّته. سأله رحّو: “ألم يكن من الأفضل لو رافقك أحد الكهنة؟ أجاب الأب رغيد: “لا، أردت أن أكون وحدي لألتقي إلهي!”.
وأردف الأب كنّي: “كانت في جعبتي أسئلة أردت أن أعترف بها أمام الله، منها ما يتعلّق بمسيرتي الكهنوتيّة وأخرى بمستقبلي والتحدّيات التي تواجهني. لذلك، رغبت بالاختلاء لساعات مع نفسي في حضرة ربّي من أعلى قمّة الجبل كي أتّخذ قراري الحاسم”».
وتتابع رغد سرد ما استنتجه الأب صباح كمّورة من هذا المشوار، كاتبًا: «كأنّ الأب رغيد قد عاهد الله من أعلى قمّة الجبل، مقرّرًا الثبات وتحدّي الصعوبات. فكما نزل يسوع من جبل طابور بعد حادثة التجلّي ليسير إلى أورشلیم ويُصلب هناك، هكذا فعلها خادم الله الأب رغيد إذ نزل من قمّة الجبل بعدما استعدّ بقوّة من الربّ ليذهب متحدّيًا قرار إغلاق أبواب الكنيسة لإقامة قداس احتفالي بمناسبة عيد الثالوث الأقدس في 3 حزيران 2007».
من ثم، تكشف لنا رغد أنّ شقيقها أحبّ أن يصبح ناسكًا ويكرّس نفسه بكلّيتها لله.
صلاة الأب رغيد كنّي
شاركتنا رغد بصلاة كتبها شقيقها، علمت بها العائلة بعد فتح ملفّاته إثر استشهاده، وهي الآتية:
«يا ربّ، لا أعتقد أنّهم سينظرون إلى صلاتي
على أنّها كانت صلاة متشائم، فقد عرفني الجميع متفائلًا.
ولربّما، لوهلة نسوا، تساءلوا عن سبب تفاؤلي،
فقد رأوني في أشدّ الحالات وطأةً أبتسم وأشجّع وأقوى.
ولكن، حين يتذكّرون أوقات الضيق التي عشتها
والصعوبات التي مررت بها،
تلك التي أظهرت مدى ضعفي ومدى قدرتك
وكشفت مدى هشاشتي ومدى قوّتك،
سيعلمون بأنّي، يا رجائي، تحدّثت عنك دومًا
لأنّني عرفتك فعلًا وكنتَ لتفاؤلي سببًا
حتى عندما أيقنت بأنّ موتي أصبح قريبًا،
ولكن دعني منهم لأكون الآن معك،
فلي رجاء أضعه أمامك،
فأنت أعلم منّي بأيّ زمن أصبحنا نعيش،
وأنا إنسان وأعرف كم أنّ الإنسان ضعيف.
أريدك أن تكون لي قوّةً،
فلا أسمح لأحد بأن يهين بي كهنوتك الذي أحمله.
ساعدني على ألا أضعف وأسلّم نفسي خوفًا على حياتي
لأنّي أرغب أن أموت لأجلك لأحيا بك ومعك.
أنا الآن مستعدٌّ للقائك، فساعدني لئلا أضعف وقت التجربة.
لأنّي قلت لك بأنّي أعرف الإنسان ولكن قلتُ أيضًا إنّني أعرفك
يا قوّتي… يا قدرتي… يا رجائي».
كما زوّدتنا رغد بصور رائعة للأب الشهيد رغيد كنيّ تُنشر للمرّة الأولى.
في ختام شهادة الحياة الملهمة لوالدة الأب رغيد وشقيقته عبر «قلم غار»، ترفع أمّه الشكر إلى الله الذي منحها نعمة أن يكون ابنها قديسًا في السماء، وتقول: «الحمد لله والشكر له».
كذلك، تحمد رغد الربّ قائلة: «أشكر الله على كل النعم في حياتي؛ أحمده على عائلتي، وكل الأمور الحلوة والمرّة، الأفراح والضيقات، الصحّة والمرض. أحمده لأنّه أعطانا لسانًا نعبّر به ونسبّحه».
تجدر الإشارة إلى أنّ «قلم غار» تخطى حدود الوطن بشهادات الحياة المؤثرة، فقابل أهمّ الملهمين في سوريا، نذكر منهم ميرنا الأخرس أو الصوفانيّة، وأحفاد القديسين الإخوة المسابكيين الموارنة (فادي مسابكي وبشارة سرحال)، ود. رهف لبّس.
كما غمرنا الله بحبّه وبركاته عبر مقابلة أهمّ الملهمين في إيطاليا، أبرزهم أنطونيا سالزانو والدة الطوباوي كارلو أكوتيس، وجنّه-إيمانويلا ابنة القديسة جنّه بيريتا مولا.
واغتنى موقعنا بمشاركته أهمّ شهادة حياة ملهمة في أستراليا مع عائلة عبد الله.
يبتهج «قلم غار» اليوم بنشر أهمّ شهادة ملهمة في العراق. إنّ نعمة إجراء هذه المقابلة علامة طلبتها مؤسِّسة موقعنا من خادم الله الشهيد رغيد كنّي لتتأكد أنّ الخير سينتصر على الشرّ في نهاية المطاف، وأنّ الربّ سيضع حدًّا لمُدَّعِي الإيمان الزائف في توقيته الإلهي…