غيتا مارون
1 شباط 2020 تاريخ هزّ العالم بأسره.
حادث مروّع يخطف حياة 4 أولاد، أنطوني وأنجلينا وسيينا عبد الله وفيرونيك صقر!
فاجعة حقيقيّة!
ليلى وداني عبد الله، لبنانيّا الأصل يتحدّران من بشرّي والشوف، زوجان مسيحيّان مؤمنان وجدا نفسيهما يواجهان الاختبار الأشد قساوة في حياتهما: خسارة 3 من أولادهما!
أمام هول المشهد ورهبة الموت، ارتفعت صلاة الأبانا التي ردّدتها شفاه أمّ ثكلى وتمتمها قلب أب مفجوع…
«أسامح قاتل أولادي! أنا لا أكرهه… ليست الكراهية من شيم المسيحيين لكنني أريد أن تأخذ العدالة مجراها!»، كلمات ليلى هزّت العالم بأسره، وما زالت أصداؤها تتردّد حتى الساعة في القلوب المتعطّشة إلى الاتحاد بيسوع.
الأمّ المتسامحة، صاحبة القلب النابض بالحبّ والأمل والرجاء، أهدت العالم أروع أمثولة في الغفران بعدما تسبّب سائق مخمور بمقتل أولادها الثلاثة.
لم تستسلم لمشاعر الانتقام والحقد بل عانقت قلب مريم العذراء عند أقدام الصليب وسلّمت ذاتها لمشيئة الله في حياة أسرتها لأنّها آمنت بأنّ ما حصل معها يمثّل إرادته.
قدّمت ليلى قلبها السموح هديّة إلى خالقها وإلهها. وثقت بأنّ أولادها في مكان أفضل يعاينون بهاء وجه الله.
منذ اتحاد قلبَي ليلى وداني برباط الزواج المقدّس، وجّها بوصلة حياتهما نحو إرضاء قلب يسوع وتأسيس عائلة مسيحيّة ملتزمة، فكان لهما ما أرادا إلى أن وقع الحادث الأليم الذي أودى بحياة 3 من أولادهما…
لم تفقد الأسرة المؤمنة تمسّكها بإيمانها الثابت بالله، وحملت آلامها من دون تذمّر…
بشرى جديدة وأناشيد الملائكة
18 آذار 2022 تاريخ مبارك حمل بشرى جديدة! ولادة سيلينا، الطفلة السابعة لعائلة عبد الله! هذا الخبر هزّ العالم من جديد، بعدما بكى مع الأسرة فراقها فلذات كبدها، فهلّل فرحًا معها في استقبال مولودها الرائع!
أبواق الملائكة عزفت نشيد الفرح من جديد في 20 نيسان 2024! الطفلة الثامنة ماري تنضمّ إلى عائلة عبد الله!
«بولادة سيلينا وماري، أشرقت القيامة في عائلتنا! انبثقت الحياة الجديدة!». هذا ما أكده الزوجان ليلى وداني عبد الله عبر «قلم غار».
يشارك موقعنا العائلة فرحتها، ويسرّه نقل المقابلة الرائعة واللقاء الخاص الذي يصفه بأنّه «خارج الزمان والمكان» مع ليلى، وتغنيه مداخلتان لزوجها داني.
إليكم اللقاء الفائض بالغفران الذي غاص في الأعماق واحتضن آلام أسرة عبد الله وأفراحها وأصغى إلى نبضات قلبها ورحلتها القياميّة.
-العالم، ولا سيّما أستراليا ولبنان، تأثر بالاختبار الأليم الذي أدمى القلوب وذُهِلَ بموقفك من السائق صموئيل ديفيدسون. كيف يستطيع الإنسان أن يغفر لمن قتل أبناءه؟
في هذه اللحظة الرهيبة، غمر الروح القدس قلبي وجعلني أسامح. قوّة الصلاة مكّنتني من المسامحة. المسيحي يعيش إيمانه أكثر ممّا يتكلّم عنه. ديانتنا ترتكز على المحبّة والتسامح والصلاة والتواضع. لأنّني مسيحيّة، سامحت القاتل.
-لو ارتكب القاتل جريمته عمدًا وكان يتمتّع بكامل قواه العقليّة، هل كنتِ ستتّخذين الموقف عينه؟
بالتأكيد، كنت سامحته لأنّ الغفران مهمّ للإنسان المتسامح أكثر من المخطئ. لو لم أسامحه، لكنت سبّبت الأذى لنفسي وزوجي وأولادي وعائلتي ومجتمعي. لأنّني سامحته، تمكّنت من إحلال السلام في بيتي، وتربية أولادي تربية مسيحيّة، والمحافظة على زواجي، والاستمرار في حياتي. وما زالت بركة الله تحلّ في بيتي.
-انطلاقًا من اختبارك الأليم، ما «وصفة الغفران»؟ (ولا سيّما إذا كان المرء يجد صعوبة في مسامحة الخطايا الصغيرة)
يجب أن يتقبّل الإنسان ما حدث معه؛ بالنسبة إليَّ، اضطررت إلى أن أتقبّل رحيل أولادي، وأن لا شيء سيعيدهم إلى الحياة.
سلّمت أمري لله لأنّ ما حصل أكبر منّي، وسجدت وصلّيت. الصلاة تضع في قلب المرء السلام، وتسمح للروح القدس بأن يحلّ فيه. صلاة الأبانا قويّة جدًّا؛ عندما يصلّيها المرء، يقول: «اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ وأساء إلينا». ردّدت الأبانا أكثر من مرّة. عندما أتأمّل هذه الكلمات، أطلب من الله أن يغفر خطاياي كما أغفر للآخرين، يعني عليَّ أن أغفر خطاياهم ليغفر الله خطاياي. عندئذٍ، يصبح أمام المرء حلٌّ من اثنين: إذا أراد أن يغفر الله خطاياه، عليه أن يغفر خطايا الآخرين.
هدفي أن أكون في السماء مع أولادي، وعلمت بوجوب غفران خطايا الآخر إذا كنت أرغب في أن يسكن الله قلبي وحياتي. عندما نسامح، نعرف أنّ الله دخل حياتنا وأنّ الروح القدس دخل قلبنا. حينها، نتيقّن أنّنا نجسّد أسس ديانتنا، ونفكر بما سنكسبه لدى مسامحة الآخرين: نصبح في حضرة يسوع في السماوات. عندئذٍ، يسوع سيسامحنا. أما إذا لم نسامحهم، فسنبقى يائسين، وسنستمر في الحالة التي نعيشها في حين أنّ الآخرين يكملون حياتهم كأنّ شيئًا لم يكن. من يغفر يدرك الفرق بين المسامحة وعدمها. كل إنسان يختار طريقه…
-هل شعرتِ في أحد الأيّام بعد رحيل أطفالك الثلاثة بأنّ الغضب يسكن أعماقك تجاه القاتل أم اعتبرتِ أنّ هذه الخطيئة المرتكبة تجاه عائلتك مُسِحَت تمامًا؟
بصراحة، أحبّ السائق صموئيل ديفيدسون، وقد سامحته من كل قلبي، وصلّيت من أجله ليصبح مسيحيًّا ويتوب عن خطاياه ويعود إلى الله.
الربّ استجاب صلواتنا، وصار السائق مسيحيًّا يصلّي المسبحة، ويتعلّم السلام الملائكي باللغة العربيّة، ويشارك في الذبيحة الإلهيّة. داني التقاه، وقال لي إنّه رأى يسوع فيه. أنا وداني نحبّه ونصلّي من أجله. هو اقترف خطأً، وكل إنسان يقترف أخطاءً في حياته. لا أستطيع أن أحكم عليه. عليَّ أن أصلّي من أجله وأسامحه.
-علمنا بأنّ صموئيل أصبح مارونيًّا، لماذا اختار هذه الطائفة؟
نعم، صار صموئيل مسيحيًّا مارونيًّا. عندما سأله زوجي: «لماذا اخترت الطائفة المارونيّة؟»، أجاب: «أريد ما لديك! أريد إيمانك! أريد يسوعك! أريد أن أكون مثلك!». اختار المارونيّة ليتمثّل بنا لأنّ المسامحة غيّرت حياته.
-هل سامح زوجك داني السائق من كل قلبه؟
أنا وداني سامحنا السائق في اليوم الذي مات فيه أولادنا. عندما وصلت إلى مكان الحادث، ورأيت أولادي، بدأت الصلاة: «أبانا الذي في السماوات»…
حين وصل داني، حاول أن يحييهم. أتى أحد الأشخاص، وقال لداني: «السائق هناك. تعال معي لننتقم منه!».
رفض زوجي الإذعان لطلب ذلك الرجل… رفع نظره إلى السماء، وقال: «يا ربّ، ما حدث أكبر مني!». سلّم نفسه لله. سامحناه في تلك اللحظة. أعطينا فسحة للروح القدس والله كي يعملا فينا، فزرعا السلام والمسامحة في قلبنا.
-هل نال السائق عقابه؟
أعتقد أنّ الحكم قضى بسجنه عشرين سنة. لا أعرف مدّة الحكم لأنّنا سامحناه وسلّمنا أمره للعدالة. مهما كانت هذه المدّة، لا شيء يعيد أولادنا إلينا. أنا وداني لا نحاول التفكير بهذا الأمر كثيرًا.
-كيف تواصلتم مع صموئيل؟
كانت طريقة التواصل حسنة؛ طلب صموئيل من سجين متشرّد أن يدلّه على كاهن ماروني لأنّه يرغب في التحدّث إليه. أرشده إلى الأب روبرت، مرشدنا الروحي، أنا وداني. التقاه الكاهن، وأخبره بأنّه يرافقنا روحيًّا. ما حصل ليس صدفة بل هو عمل الله والروح القدس.
عندئذٍ، بدأت مسيرة التواصل مع السائق.
داني جلس معه وجهًا لوجه… اضطررنا إلى انتظار نهاية المحاكمة. زوجي التقى السائق في السجن وتحدّث إليه.
بدوره، يخبر داني «قلم غار» ما حدث معه عندما التقى صموئيل، شارحًا: «اعتذر مني السائق مرات عدّة وبكى. قلت له: «الربّ يعطي كل شخص صليبًا يستطيع تحمّله، ويجب علينا تقبّله». وأضفت: «اليوم نجمع هذا الصليب مع بعضنا»… لم يتوقف صموئيل عن البكاء.
أصبح السائق كاثوليكيًّا يصلّي المسبحة الورديّة ويرفع الصلاة من أجلي ومن أجل ليلى وأولادنا. باتت حياته شبيهة بالترهّب. أصبحنا أصدقاء، سواء أحببته أم لم أحبّه، فإنّ ذلك لن يعيد إليَّ فلذات كبدي. أريد أن أمنح أولادي الأحياء ليانا وألكس ومايكل وسيلينا وماري طاقة إيجابيّة. لذلك، غفرت للسائق لأنّني أعرف أنّ عليَّ المسامحة والاستمرار في تربية أولادي والتأكد من أنّهم بخير واحتضانهم بالحبّ. إن لم أغفر للسائق، لكنت أصبحت حزينًا وغاضبًا جدًّا، وفكرت بالانتقام، ولم أركّز على نموّ أبنائي.
أولادي الثلاثة أنطوني وأنجلينا وسيينا وقريبتهم فيرونيك يسكنون السماء، وجميعنا سنموت. أريد أن أرى أولادي مجدّدًا. لذلك، إذا سامحت السائق وأحببته، سأراهم وأكون أمينًا ليسوع والكنيسة. وهذا ما فعلته.
يتوجّه «قلم غار» إلى ليلى، سائلًا:
-في 20 نيسان 2024، أنجبتِ طفلتك الثامنة ماري، وسبقتها سيلينا في 18 آذار 2022. ماذا بدّلت ولادة الطفلتين الأخيرتين في العائلة؟
سيلينا وماري هما أجمل هديّة حصلنا عليها في حياتنا. لا شيء يُنهي الألم وينسينا أنطوني وأنجلينا وسيينا لكن هاتين الطفلتين أدخلتا الكثير من الفرح والسلام إلى بيتنا. أولادي فرحون بهما ويلعبون معهما. أعادتا البسمة إلى بيتنا وصرفتانا قليلًا عن ألمنا، ومنحتانا الأمل لنكمل حياتنا.
أشعر بوجوب التعويض عن أخطائي كأمّ مع هاتين الطفلتين. أنا سعيدة بهما جدًّا، ووجودهما دليل على كرم الله وحضوره إلى جانبنا ومدّنا بالقوّة. هما هديّة من السماء، وأنا متشوّقة لأرى مسيرتهما مع الله.
-ما سبب تسميتهما سيلينا وماري؟
اسم سيلينا يجمع بين اسمَي أنجلينا وسيينا. أما ماري، فتحمل اسم مريم العذراء لأنّها حاضرة في حياتنا وأنا أحبّها كثيرًا منذ صغري.
-قلتِ: ترغبين في التعويض عن أخطائك كأمّ، ماذا تقصدين بكلامك؟
الإنسان ليس مثاليًّا. كلنا نرتكب أخطاءً في حياتنا. لذلك، المسامحة مهمّة جدًّا.
كأمّ، أؤنّب أولادي أحيانًا، وأكون متعبة. نرتكب الأخطاء ونقصّر بواجباتنا معهم، ومع أزواجنا أيضًا، ونتشاجر معهم. هذه طبيعة الحياة. عندما كان أطفالي الثلاثة على قيد الحياة، لم أكن مثاليّة. طبعًا، أنّبتهم، ورفعت صوتي في وجههم، وقصّرت معهم. الآن أعرف أنّ هذا الأمر خطأ. كنت أصرخ لأنّني متعبة. يجب أن أكون هادئة وأستوعبهم وأعرب عن حبّي لهم.
أودّ مشاركتكم هذه القصّة: عندما كان الأولاد يخرّبون المنزل، كنا نؤنّبهم ونطلب منهم أن يحافظوا على ترتيبه.
في إحدى المرات، استحمّت أنجلينا ومشت حافية، فصارت قدماها سوداوين. نامت على سريري وطبعت آثار قدميها على الحائط. أنّبتها، فاعتذرت مني. قلت لها: «حسنًا… لا تعيدي الكرّة!».
عندما مات أولادي، بتُّ أقصد المكان الذي طبعت فيه أنجلينا آثار قدميها وأضع يديَّ على الحائط، وأقول لها: «أشكرك لأنّك طبعتِ آثار قدميك هناك»… أشكر أولادي لأنّهم خرّبوا البيت. أذهب إلى ما خرّبوه، وأضع يديَّ هناك. وأقول: «هذه ذكرى منهم!».
الآن، أحمد الله على أولادي الأحياء، وأقدّر ما يقومون به، وأحاول أن أتعلّم من أخطائي.
-ربما تحمّلين نفسك أكثر من اللازم لأنّ الأمور التي تشيرين إليها مرتبطة بالتربية، وتتطلّب من الأمّ عدم التساهل مع أولادها. ما رأيك؟
الآن أفكر بأنّ الأطفال لا يقصدون التخريب، فهم يستكشفون الحياة. لذلك، يقومون بما يقومون به. يجب إعطاء الأمور حجمها، على سبيل المثال قصد الأولاد اللعب وليس التخريب.
أنا لا أشعر بالذنب لأنّني أعرف أنّ الله يسامحنا ويحبّنا. جميعنا نُخطئ في الحياة، ويجب أن نتعلّم من أغلاطنا. مثلًا، كان السائق مخمورًا ومخدّرًا، فدهس الأولاد وقتلهم. الآن، لم يعد يشرب الكحول ويتعاطى المخدّرات وبات متنبّهًا لدى قيادته السيّارة.
إذا أخطأنا، علينا أن نسامح أنفسنا، ونحاول مرّة أخرى لأنّ الإنسان يتعلّم من أخطائه.
-من خلال الولادات الجديدة، هل تشعران، أنتِ وداني، بأنّكما «تعوّضان» عن الأطفال المنتقلين إلى الحياة الأبديّة؟
أنا سعيدة لأنّكِ طرحتِ هذا السؤال. كلا. لا أحد يحلّ مكان الآخر. كل إنسان عزيز ومميّز في الحياة. سيلينا وماري لا تحلّان مكان أنطوني وأنجلينا وسيينا. الحياة الجديدة تنبض فيهما. الله شاء أن تأتيا إلى هذه الأرض، وأعطانا إيّاهما. أنطوني وأنجلينا وسيينا هم نصف قلبي، ونصف عقلي، ونصف حياتي. وأنا أفكر بهم يوميًّا وبكيفيّة تكريمهم وإحياء ذكراهم في العالم.
لذلك، أسّسنا «آي فورجيف فاونديشان» لأتحدّث عنهم وأكرّمهم دومًا.
-كم يبلغ عدد الأطفال الذين ترغبين في إنجابهم؟
أحبّ الأطفال كثيرًا. لم أحدّد العدد. سلّمتُ أمري لله. الربّ يعطيني بحسب مشيئته. أشكره لأنّه أعطاني عائلة جميلة مؤلفة من 8 أولاد: 3 في المسكن السماوي (3 قديسين ينظرون إلينا من السماء) و5 معي. علينا العمل والصلاة معًا كي تكون السماء مسكننا ونجتمع معهم في نهاية المطاف.
-كيف ساعد الحبّ أسرة عبد الله لتتقوّى وتكمل المسيرة؟
لم يساعدنا الحبّ فحسب، بل ساعدنا الحبّ والإيمان لنقوّي أنفسنا ونكمل المسيرة لأنّ أمورًا كثيرة قد تحدث ونتأذّى منها، على الرغم من حبّنا الشديد لبعضنا. عندما نتحلّى بالإيمان، ندرك وجوب المسامحة والاستمرار.
-كيف تنقلين وزوجك حبّ الالتزام مع الربّ ونشر كلمته إلى العائلة؟
يتمّ ذلك من خلال اجتماع العائلة وصلاتها وتشجيع الأولاد على قراءة الإنجيل. أطلب منهم قبل النوم أن يصلّوا الأبانا والسلام الملائكي وتأمُّل «يا يسوع الحبيب» ويقرأوا صفحة من الإنجيل لأنّ تعلّمهم كلمة الله يطرد الخوف من نفوسنا عليهم، فنتيقّن أنّ الله يعمل في حياتهم ويرافقهم.
-هل شعرتما بأنّكما مثل النبي أيّوب؟
نعم. الإنسان المؤمن معرّض للتجارب في حياته. ما زلت أُجَرَّبُ حتى اليوم في أمور كثيرة لكنني سأقول دائمًا: «مع آلامك يا يسوع! أحبّك يا يسوع! أسلّم أمري لكَ يا يسوع!».
إذا كان ألمي سيعيد الناس إلى إيمانهم، أنا مستعدّة لأن أتألّم من أجلك ولأن أكمل حياتي كي أكرّمك وأمجّد اسمك فقط.
ما دام الإنسان حيًّا، فهو معرّض للتجربة. عندما يتعرّض الإنسان للتجارب، يشعر بأنّه مثل أيّوب.
-في اختباركما الأليم، عشتما الموت والولادة والقيامة. كيف تصفين هذه المراحل؟
الموت يُشعِر الإنسان بأنّه قريب جدًّا من الله، وبأنّه عاجز عن القيام بأيّ شيء، فيسلّم أمره لله في هذه اللحظة.
الولادة تُشعِر الإنسان بأنّه قريب من الله، فيختبر حضور الربّ فيها. أما القيامة، فتُشعره بالقرب من الله. أنا اختبرت القيامة عند ولادة أبنائي. نظرة الناس لنا اختلفت. قبل ولادة سيلينا وماري، كان الناس يقولون عند رؤيتنا: «حرام… خسرت عائلة عبد الله أولادها لكنها قويّة لأنّها سامحت المذنب».
بعد ولادة طفلتاي الأخيرتين، بات الناس ينظرون إليَّ مبتسمين عندما أدخل الكنيسة. الطفل يرسم الابتسامة على وجه الآخر. ولادة سيلينا وماري جعلت القيامة تشرق في عائلتنا، وانبثقت الحياة الجديدة. وفي الحالتين، اختبرنا حضور يسوع.
-اختبرتما، أنتِ وداني، الشفاء الروحي لأنّكما غفرتما لمن قتل أولادكما في اللحظة عينها، كيف تُشفى عائلة من جرح عميق جدًّا؟
المسامحة جعلتني أنظر إلى الأمر بطريقة مغايرة. بدلًا من أن أقول: «أنا خسرت أولادي»، شعرت بأنّني ربحتهم. هم في السماء وليسوا تحت الأرض. هم أحياء أكثر مني. أولادي يتنعّمون في الحياة الأبديّة. «نيّالي… أولادي في السماء!». لا بأس إذا اشتقت إليهم، لكن هذا الشوق سيمتدّ لفترة قصيرة. إذا صوّبت نظري نحو الله وصلّيت لهم، سأكون معهم.
لا أريد أن أعدّ جنازة لأولادي، بل أرغب في أن أحتفل بحياتهم. لا أريد أن أرتدي الأسود بعد رحيلهم، بل الأبيض. لا أريد أن أجلس في الزاوية، وأتأسّف على ما حدث، بل أرغب في أن أكمل حياتي وأتحدّث عن يسوع والمسامحة وأجعل أولادي الأحياء يستمرون في عيش حياتهم ويحتفلون بأعيادهم وأعياد الميلاد والشعانين والفصح لأنّ الحياة قصيرة…
على الرغم من الألم، لم أستسلم بل أكملت الطريق ولم تفارقني الابتسامة.
-ما النصيحة التي تسدينها للعائلات المتألمة بسبب فقدان أولادها؟
كل شخص لديه صليب، وكل إنسان يواجه الموت. جميعنا سنموت. من مات، سبقنا إلى الحياة الأبديّة. يجب علينا تقبُّل ما حدث معنا والصلاة من أجل الراحلين وتسليم أمرنا لله.
الموت جميل جدًّا. كما تُمَكِّنُنا الولادة من رؤية أولادنا، يجعلنا الموت نرى الله. الربّ حنون ورحوم وغفور. عندما نلتقيه، لن يتذكّر خطايانا لأنّه قد سامحنا. لحظة اللقاء به رائعة. من مات يكون مع الله. إذا أحببنا الراحلين، نستمر في الحديث عنهم والصلاة من أجلهم، ونتقرّب من الله لنستطيع أن نكون معهم في الحياة الأبديّة ومع يسوع.
كما أشجّع العائلات المتألمة على المحبّة والمسامحة والاستمرار في الحياة ليكون كل فرد منها مع الراحلين في السماء.
-كيف تستعيد العائلة الفرح بعد اختبار أليم؟
من الصعب جدًّا أن يستطيع الإنسان عيش السعادة بعد خسارة شخص يحبّه. مثلًا، لدى احتفالي بأعياد ميلاد أولادي الأحياء، أدخل إلى غرفتي وأبكي، من ثم أمسح دموعي وأخرج منها مبتسمة، وأفكر بأنّ ابني الذي أحتفل بعيده ما زال معي في هذه اللحظة. يجب أن نفرح بأحبّائنا المحيطين بنا.
قلبنا منكسر، أنا وداني، لأنّنا خسرنا أولادنا، ولا شيء سيعوّض خسارتهم. هناك دائمًا غصّة وحزن في القلب. على الرغم من هذا الألم، علينا إكمال مسيرتنا، ورسم الابتسامة على محيّانا. لا يمكننا أن نبكي أمام أولادنا الأحياء. عندما ننظر إليهم، نبتسم ونشكر الله لأنّهم ما زالوا معنا.
لا يمكن أن تعود الفرحة كاملة كما كانت في الماضي.
-متى تزورين المثوى الأخير للأولاد؟
في أعياد ميلادهم، أقصد مثواهم الأخير، وأحضر معي قالب حلوى. نجتمع معًا ونصلّي المسبحة، ونغنّي لهم «عيد ميلاد سعيد». وأزورهم في عيد ميلاد يسوع والجمعة العظيمة وأحد الشعانين، وعيد الأمّهات… أحيانًا، إذا كنت حزينة، أجلس معهم.
كنت أزورهم أكثر من مرّة في الأسبوع، لكن الأمر بات صعبًا حاليًّا. أنا تعبت في خلال حملي، ولم تكن ولادتي سهلة. أشعر بأنّهم حولي وبأنّ روحهم موجودة دومًا معنا.
-كيف ترين دور عائلة عبد الله ورسالتها في الكنيسة المارونيّة؟
يكمن دورنا في تشجيع الناس على حمل صليبهم بسلام وفرح ومحبّة ومغفرة خطايا الآخرين. المسامحة هي الرسالة التي أعطانا الربّ إيّاها من خلال اختبارنا ليقول لنا: شجّعوا الناس على الغفران لأنّنا نعيش في زمن يفتقد الحبّ والمسامحة. وهذا الأمر يؤثر على الزواج والأولاد والمجتمع.
لذلك، رجاءً أحبّوا بعضكم، والأهمّ سامحوا الآخرين من أجلكم ومن أجل أولادكم وعائلاتكم ليكبر الجميع في كنف بيئة تغمرها المحبّة والمسامحة لأنّ الأبناء يسامحون غيرهم إذا رأوا الأهل يصفحون عمّن أساء إليهم.
-رئيس الجمهورية الأسترالي السابق سكوت موريسون اختار اليوم الذي انتقل فيه أطفالكِ إلى الحياة الأبديّة وسمّاه «يوم الغفران» في البلاد. متى بدأ الاحتفال بهذه الذكرى؟ علمنا بأنّها ستُنقل إلى لبنان قريبًا؟ هل تضعيننا في صورة ما يجري؟
عندما سامحت السائق، تأثر العالم أجمع بمسامحتنا له. باتوا يخبرونني ماذا فعلت المسامحة في حياتهم وكيف غيّرتها.
فكرت بكيفيّة إحياء ذكرى أولادي من خلال تحديد يوم المسامحة في أستراليا. من ثم، التقيت الرئيس الأسترالي السابق سكوت موريسون وأطلعته على فكرتي، فأُعْجِبَ بها وطلب من فريقه العمل لتنفيذها. نظّمنا «آي فورجيف لانش» في أستراليا في 1 شباط 2021. بدلًا من أن يكون 1 شباط ذكرى رحيل الأطفال، تحوّل إلى «يوم الغفران»، وبات الجميع يفكرون بالمسامحة في هذا التاريخ.
إنّنا نفكر حاليًّا، في انتظار أن تكبر طفلتي ماري قليلًا، أن نذهب إلى لبنان ونتحدّث مع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي ونحدّد يوم المسامحة في بلاد الأرز. ربما يكون هذا التاريخ 4 آب، ذكرى انفجار مرفأ بيروت.
أنا وداني تأثرنا كثيرًا بما حصل في ذلك اليوم الرهيب، وأستراليا تأثرت أيضًا بما حدث في لبنان. في النهاية، جميعنا بشر، وقلوبنا انكسرت مع المتألمين بسبب الانفجار. أعرف أسماءَ كثيرة من الشهداء، وصورهم تسكن قلبي وعقلي وذاكرتي. صلّيت من أجلهم، وبكيت مع أمّهاتهم وشاركتهن الشعور عينه عند رحيل أبنائهن.
-في هذا الصدد، ما رسالتك لأهالي شهداء انفجار مرفأ بيروت؟
اختبارهم يكسر القلب. لا تستأهل أيّ أمّ في العالم أن ترى أولادها يُدفنون أمامها. قد يكون هذا الاختبار من أصعب التجارب في الحياة.
نحن مؤمنون، لا يمكننا تغيير ما حصل، لكننا نستطيع تقبّله، والصلاة من أجل أولادنا، وتسليم أمرنا لله، والمسامحة لترتاح نفوسهم وليعمل الله فينا. في النهاية، الربّ عظيم وقادر على كل شيء.
ما مرّوا به ليس سهلًا. نطلب من الله أن يمدّهم بالقوّة والصبر ليكملوا الطريق. أدعوهم إلى توجيه نظرهم صوبه والاستمرار في الصلاة وعيش المحبّة والمسامحة. الغفران هو الأهمّ كي لا يخسروا زواجهم وأبناءهم والمحيطين بهم لأنّ أولادهم الذين ماتوا هم شهداء ويسكنون السماء مع يسوع. ويجب علينا أن نسامح كي نكون معهم، وأن نجعل عائلتنا تسامح كي تكون معهم في السماء.
يطرح «قلم غار» السؤال عينه على داني، فيجيب:
أدعو الأهالي إلى مسامحة من أساء إليهم لأنّ الغفران سيكون من أجلهم، وسيمضون قدمًا في حياتهم. وأقول لهم: «حافظوا على نظافة قلوبكم. اختباركم ليس سهلًا أبدًا. نحن خسرنا أولادنا، وأنتم خسرتم أحبّاءكم أيضًا. من دون الربّ ومن دون اختبار حضوره معنا، لن تكون الحياة مستحقة العيش».
لقد اختبر الأهالي الموت. أتوجّه إليهم بالقول: «حاولوا أن تمنحوا حياتكم أفضل ما لديكم لأنّ أولادكم يرونكم ويفعلون مثلكم ويتصرّفون بحسب مثالكم إذا حدث معهم أمر سيّئ. إذا سعيتم إلى الانتقام، سيفعلون كذلك تجاه بعضهم، وسيكون جيلهم ملعونًا».
يجب أن نحمل الصليب. لذلك، أنا سامحت السائق من أجل خير أولادنا ولأنّ أبانا السماوي طلب منا المسامحة.
ويختم «قلم غار» حديثه مع ليلى:
-في النهاية، علامَ تشكرين الربّ؟
أشكره على كل شيء: الحياة، أولادي، زوجي، أمّي، أبي، بيتي، محيطي. وأحمده على الصحّة والنعم التي يغدقها علينا، وأقول له: «لتكن مشيئتك!».
أسرة عبد الله قرّرت نقل البشرى إلى العالم، فشاركت في الكثير من اللقاءات العالميّة المهمّة، ولبّت الدعوات كي تشهد لمحبّة يسوع في حياتها، منها اللقاء العالمي العاشر للعائلات في صيف 2022، بعنوان «الحبّ العائلي: دعوة ودرب قداسة»، وما زالت تنشر رسالة الغفران أينما حلّت.
لقد أفرحت أسرة عبد الله قلب يسوع في أحلك محطات حياتها وأكثرها إشراقًا على حدّ سواء لأنّها أحبّت بكل قوّتها، وسامحت من كل جوارحها، واختبرت الولادة الجديدة من رحم الأحزان، وأتقنت العبور من ظلمة القبور إلى نور القيامة.