غيتا مارون
فنّان لبناني شامل جمع المجد من أطرافه الثلاثة: المسرح والتلفزيون والسينما، وخطا نحو العالميّة.
مفعم بالحبّ والحياة والعطاء، لم يُسكره النجاح. أحبّ الجمهور العاشق لمسرحه وتمثيله وخفّة ظلّه، فكانت محبّته لعشّاقه الحافز الأهمّ للتمثيل والتأليف والإنتاج والإخراج.
إنّه الفنّان المبدع جورج خبّاز الذي يشهد عبر «قلم غار» لتجلّيات حضور الربّ في حياته وتمسّكه بإيمانه حتى النفس الأخير.
-كيف يتجلّى دور الربّ في حياتك؟
الله محبّة، وإذا كنت سأتحدّث عن دوره في حياتي، فلا أستطيع إلا أن أتكلّم عن دور المحبّة في مسيرتي. كل عمل نقوم به بحبٍّ صافٍ، وكل ما نقترب منه بمحبّة صافية هو عمل ربّاني… أحاول أن أعمل بمحبّة، على قدر استطاعتي. وعندما أشعر بأنّني ابتعدت عن هذه المحبّة عن قصد أو عن غير قصد، أنطلق من جديد باتجاهها بأساليب عدّة، إن كان من خلال سلوكي اليومي أو الصلاة أو التأمّل أو إعادة ترميم العلاقة بيني وبين الربّ، إذا أصابها خللٌ ما.
جاء المسيح ليفسّر لنا أنّ الله محبّة؛ في العهد القديم، كان الإنسان يبحث عن الله، ورآه متجلّيًا بالقوّة أو الغضب أو الزلازل أو البراكين أو الشمس أو النار… جاء المسيح ليقول لنا: «لا تبحثوا عن الله خارجكم بل داخلكم، فهو حاضر بفعل الخير والمحبّة الكامن فيكم».
-ما الآية الإنجيليّة التي تعني لك كثيرًا وتتذكّرها في وقت الشدّة؟
آيات كثيرة تعني لي… أذكر منها: «ما بُنِيَ على باطل فهو باطل»، «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟»… وأذكر آية تساعدنا في الأيّام الصعبة: «كونوا حكماء كالأفاعي وودعاء كالحمام»… و«طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء الله يدعون» إذ ينقصنا أن نكون صانعي السلام…
-من خلال عملك، كيف تصنع السلام؟
أحاول من خلال عملي أن أوصل رسالة إلى الناس. فالمسرح مؤثّر، والفنّ المشهدي بشكل عام مؤثّر، ويبني الشخصيّة، ولا سيّما شخصيّة الولد، فهو لا يزال ورقة بيضاء. وهنا تكمن مسؤوليّتنا إذ يجب علينا أن نزرع في ذهنيّته وقلبه حبّ الانفتاح وتقبّل الآخر والإنسانيّة المجرّدة من أيّ عناوين ترابيّة سخيفة لها علاقة بالاسم واللون والطائفة والمذهب، ما يعزّز السلام.
ومن خلال الفنّ، يتصالح الإنسان مع نفسه… أتمنّى لو تُفرَض المواد الفنّية في المناهج التربويّة، وتكون علاماتها موازية للمواد العلميّة، وتحضرني مقولة أحبّها كثيرًا مفادها: «علّم الولد أن يرسم العصفور، فيمتنع عن اصطياده عندما يكبر». فكيف بالحريّ إذا تعلّم الفنّ المسرحي والموسيقى والرقص، أي أن يرسم النفس البشريّة، وأن يحبّ ذاته -بالمعنى الإيجابي- لينعكس هذا الحبّ على الآخر… فللفنّ الدور الكبير في صناعة السلام.
-كيف تقاوم مغريات السلطة والشهرة والمال، وتستطيع أن تتمسّك بإيمانك؟
السلطة والشهرة والمال أمور ترابيّة لا علاقة لها بالروح، لكن إذا عرفنا كيفيّة الاستفادة منها وتكريسها للروح، تصبح في خدمته، على سبيل المثال يمكن للغنيّ أن يقوم بأعمال خيّرة، فيفيد مجتمعه، ويمكن للمشهور أن يكرّس شهرته وحبّ الناس له لأمور مفيدة، ويمكن للسلطة أن تكون توعويّة وليس دكتاتوريّة، فتأخد الناس إلى مكان أفضل…
أكيد هناك صراع يومي لأنّ هذه الأمور ترابيّة، فالمسيح يقول: «مملكتي ليست من هذا العالم»… بينما يكمن طموحنا في أن نتمتّع بالسلطة في العالم… ويقول الربّ يسوع: «لا يستطيع الإنسان أن يعبد رَبَّيْن»، بينما نسعى وراء المال… أمّا الشهرة، فيعمل الإنسان من أجل مجده الشخصي، وهذا المجد يأخذ من روحك… أنا وصلت إلى مرحلة لم تعد هذه الأمور تعني لي -بالمعنى الجوهري للكلمة- ربّما لأنّني حصلت على الثلاثة… لا أقول إنّني ترفّعت… إلا أنّ مفهومي بات مختلفًا وأكثر عمقًا، فعشت بسلام مع نفسي لأستطيع أن أكون فعّالًا في مجتمعي بشكل إيجابي…
-من اكتشف موهبتك وشجّعك في بداياتك؟
الموهبة تفرض نفسها، لكن لا بدّ من وجود بيئة حاضنة مشجّعة. الحمد لله لأنّني كبرت في كنف عائلة تشجّع الثقافة والفنّ (أخوالي موسيقيّون، ووالداي عملا في التمثيل)، فاكتشفت موهبتي باكرًا ونمّيتها واستثمرتها في المكان الصحيح، وكانت أمّي من أكثر المشجّعين…
-تأثرتَ بالفنّان العالمي تشارلي شابلن، ما القواسم المشتركة التي تجدها معه؟
لغة الجسد قاسم مشترك كبير، تعلّمت منه التعبير بالجسد في التمثيل لأنّه عمل في السينما الصامتة، واعتمد على الجسم لإيصال الفكرة.
أمّا القاسم الثاني، فهو الرسالة التي حملها في أعماله من خلال الشخصيّة المهمّشة التي كانت بطلة أفلامه، وطرحت مواضيعَ اجتماعيّة لها علاقة بالعمق الإنساني بشكل أو بآخر، والفوارق الطبقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وأطلق صرخة إنسانيّة، ما أثّر فيَّ كثيرًا. فلقد تابعت أعماله منذ طفولتي، وما زلت أعاود مشاهدة أفلامه وأراه ببعدٍ جديد.
-يعجّ رصيدك بالمسلسلات التلفزيونيّة والأعمال المسرحيّة والأفلام السينمائيّة الناجحة.
أ-أيّ من المسلسلات حقّق نجاحًا أكبر من سواه؟
أعتبر أنّ مسلسل «عبدو وعبدو» حقّق نجاحًا عائليًّا كبيرًا، وكان باكورة أعمالي الكتابيّة، فهو محطّتي الأبرز في التلفزيون وسبب انطلاقتي الكبيرة، حتى مسرحيًّا إذ أطلقت مسرحيّة بعد عرضه وكان سبب نجاحها، وتلته سبحة النجاحات.
ب-بالنسبة إلى الأعمال المسرحيّة، أيّ مسرحيّة هي الأحبّ إلى قلبك؟
هناك مسرحيّات كثيرة، أذكر منها 6 أعمال مسرحيّة أحبّها كثيرًا: «كذاب كبير»، «عالطريق»، «مع الوقت… يمكن»، «مش مختلفين»، «إلا إذا…»، «يوميّات مَسرَ حجي»…
ج-من أعمالك المسرحيّة «رفقا»، ماذا تخبرنا عنها؟ وما الرسالة التي أردت أن توصلها عبرها؟
مسرحيّة «رفقا» من كتابتي وإخراجي، مسرحيّة موسيقيّة، مع جوقة القديسة رفقا المؤلفة من 50 عازفًا وعازفة بقيادة الأخت مارانا سعد، والألحان لمارسيل خليفة، شربل روحانا، خالد مزنّر، وأنا. والممثّلون هم: لينا فرح، ورفقا فارس، وجوزيف ساسين، وطوني معركش، وسواهم.
سلّطت هذه المسرحيّة الضوء على كيفيّة وصول رفقا إلى طلب الألم، من خلال 3 شخصيّات، منها رفقا الراهبة التي تعيش الفرح عبر شخصيّة مجسّدة على المسرح، وتَنشد الألم أيضًا بشخصيّة أخرى، وتطلب أن يبقى الفرح إلى جانبها لأنّها لا تستطيع أن تلتمسه بدون الوجع إذ إنّه يؤلم بحسب رأيها… الفرح يأتي من السعادة المنبثقة من الإيمان، فتحاول رفقا في المسرحيّة مصالحة الفرح مع الألم اللذين لا يلتقيان إلا عند القديسين، وعند الناس الذين يفهمون معنى الصليب لأنّ الفرح واقف ورافع رأسه للربّ، بينما الألم زاحف ليبحث عن ضعف البشر، وإذا التقيا يرسمان الصليب. وكان مغزى المسرحيّة مصالحة الألم والفرح لأنّ القديسين يطلبون الألم إذ يعتبرون أنّه يطهّر روحهم، ويطلبونه بفرح الإيمان لأنّه البوّابة للوصول إلى الربّ، بحسب رأيهم.
د-بالنسبة إلى الأفلام السينمائيّة، برز فيلم «غدي» (كتابتك وبطولتك) الذي حصد 14 جائزة وأردت من خلاله أن توصل رسالة إلى الناس لتشجّعهم على تقبّل الآخر المختلف. إلى أيّ مدى لمست أنّ الرسالة وصلت إلى الجمهور؟
لا أعرف مدى التغيير، لكن يجب علينا أن نقول كلمة حقّ: «قل كلمتك وامشِ»، آملين أن نؤثر في الناس، وإلا لما قدّمنا الفنّ المشهدي… نرغب في أن تنتشر الرسالة وتصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ويحصل تغيير فرديّ أو عدوى، وتغيير جماعي…
ما أعرفه أنّ فيلم «غدي» أثّر في كثيرين، وشعروا بأنّ الرسالة وصلت. وأعتبره من أجمل الأعمال السينمائيّة التي قمت بها لأنّ آفتنا في العالم العربي تكمن في نظرتنا المتخلّفة إلى المختلف بكل أنواعه. فإذا كنتُ عاجزًا عن تقبّل الآخر، وهو «خلقة ربّه»، فكيف أتقبّل شخصًا من دين أو فكر أو معتقد مغاير. من هنا، أُنْجِزَ فيلم «غدي» بعد تجربة طويلة مع «أكسوفيل» التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصة في المسرح، ولاقى نجاحًا في لبنان والخارج، وتمّت دبلجته إلى لغات عدّة، منها الإسبانيّة والإيطاليّة والكوريّة… عُرِضَ في بلدان كثيرة ونال جوائز عالميّة عدّة، وأنا أفتخر به.
-أين تجد نفسك أكثر: في المسرح أو السينما أو التلفزيون؟
الفرق بين الثلاثة أنّ التلفزيون يؤمّن الانتشار لأنّه يدخل كل المنازل، وله تقنيّة خاصة، بينما السينما تستمرّ، وهي خالدة إذا كان العمل السينمائي متقنًا. أمّا النشوة المعنويّة الكبرى، فنبلغها في المسرح إذ هناك لقاء مباشر مع الناس، وعرس ليليّ، وتوحيد للمشاعر نلمسه من خلال مشاركة الضحكة والتصفيق والصمت والدموع مع الآخرين. وهذا الأمر يثبت أنّ القواسم المشتركة بين الناس هي نفسها بكل اختلافاتها، الجدليّات والهواجس والأسئلة عينها.
-حصدتَ أكثر من خمسين جائزة. من له الفضل الأكبر في الحصول عليها؟ من تشكر؟ لمن تهدي نجاحك؟
عندما نقوم بعملنا كما يلزم، ينجح العمل -من دون إنكار فضل الآخرين-، والفضل الأكبر يعود إلى المجهود المبذول في هذا العمل والمستحقّ الجائزة.
-كيف تصف شعورك عندما تسمع تصفيق الجمهور بعد انتهاء العرض المسرحي؟
أشعر بفرح عارم لا يمكن وصفه، وحبّ كبير… النجاح رائع، والشعور بمحبّة الناس نعمة كبيرة… في المقابل، التصفيق لا يُسكرني، بل يحمّلني مسؤوليّة الانتباه إلى مسيرتي أكثر…
-هل هناك أماكن معيّنة تتوجّه إليها وتجد فيها سلامك الداخلي؟
البحر في البترون، والمسرح الفارغ، والكنيسة الفارغة.
-ما أكبر تعزية لقلبك؟
يسوع هو أكبر تعزية لقلبي… المسيح هو الملجأ… وبالنسبة إلينا، نحن الضعفاء، هو الملجأ والفرح والتعزية والقوّة التي نستمدّها في أوقات الضعف.
-في النهاية، علامَ تشكر الربّ؟
أشكر الربّ لأنّه ترك كلامًا ما زال تأثيره مستمرًّا لغاية اليوم… أحمده لأنّه تخطّى الأرض والجسد والعقل ليعطي الأولويّة للروح… ما زلنا، بترابيّتنا، نعبد العقل والجسد والغرائز والسلطة… أشكره لأنّه عرف أن يوصل لنا مفهوم المحبّة بأبسط طريقة وأكثرها عمقًا، ولم يأتِ أحد فسّر معنى المحبّة وجسّدها كما فعل يسوع… قد يستغلّ البعض يسوع للوصول إلى سلطة معيّنة أو مركز معيّن… وقد أخبرنا عنهم… لا يؤثرون فيَّ… ما يؤثر فيَّ هو الجوهر الذي لا يتغيّر ولا أحد يستطيع تغييره!