غيتا مارون
كيارا لوتشي بادانو، طوباويّة معاصرة سطّرت أسمى معاني الإيمان والحبّ في مسيرتها المباركة. تحوّلت آلامها إلى شعاع رجاء، وحياتها إلى شهادة حقيقيّة للنور والفرح المنبثقين من لجّة المعاناة.
وُلِدَت كيارا في إيطاليا في 29 تشرين الأوّل 1971، بعد سنوات طويلة من الانتظار. تربّت في أحضان أسرة مسيحيّة تقيّة، وتميّزت بجمالها ومواهبها المتعدّدة، ما جعلها محط إعجاب كل من عرفها.
حين بلغت التاسعة من عمرها، انضمّت إلى حركة الفوكولاري، واكتشفت أنّ الله هو الحبّ المطلق الذي يمكن للإنسان أن يعيش لأجله. لكن المرض لم يمهلها طويلًا. في السابعة عشرة، اشتدّت معاناتها مع تآكل عظامها؛ تجربة قاسية لم تُخمد وهج فرحها الداخلي. كانت تردّد بإيمان وابتسامة: «لم يعد فيَّ شيء سليم، لكنني ما زلت أملك قلبًا ينبض بالمحبّة!».
تحوّلت غرفتها، سواء في المستشفى أم البيت، إلى منارة تجمع الشبيبة المصلّية، حيث بشّرت بحبّ المسيح بكلماتها وألمها. ومع كل ألم جديد، كانت تصلّي بثقة مطلقة: «لكَ يا يسوع. إذا أردتَ أنتَ هذا، أريده أنا أيضًا!».
قبل انتقالها إلى الملكوت، أوصت والدتها قائلةً: «أمّي، ردّدي وأنتِ تُحضّريني: إنّ كيارا لوتشي سترى يسوع، وكونوا سعداء لأنّني سعيدة!».
في 7 تشرين الأوّل 1990، ختمت كيارا حياتها الأرضيّة وهي في التاسعة عشرة لتعانق الحياة الأبديّة. أعلنتها الكنيسة الكاثوليكيّة طوباويّة في 25 أيلول 2010، بحضور 25 ألف شخص من 57 بلدًا، لتبقى شهادتها رسالة حبّ وأمل للأجيال المقبلة.
يسرّ «قلم غار» مشاركة متابعيه شهادة صارخة تغوص في عمق حياة الطوباويّة كيارا، تُنشر للمرّة الأولى باللغة العربيّة عبر منبرنا. المقابلة أُجريت مع كيكا كورياسكو، صديقة كيارا ونائبة رئيسة مؤسسة كيارا بادانو، متحدّثةً نيابةً عن والدة كيارا ماريا-تريزا كافيليا-رئيسة المؤسسة المذكورة آنفًا- نظرًا لتقدُّمها في العمر (90 عامًا)، والتزامها بأن يكون الردّ على المقابلات الخاصة من خلال مؤسسة ابنتها، بروح جماعيّة تعكس إرث كيارا.
-متى أدركتم أنّ كيارا تتحلّى بإيمان قويّ وحبّ كبير ليسوع؟
كانت كيارا طفلة مفعمة بالحيويّة، وجميلة، ومهذّبة جدًّا. لم تكن طفلة وحيدة تقليديّة. شعر والداها بأنّها ليست ابنتهما فحسب، بل هي أوّلًا ابنة الله. وربّياها مع احترام حرّيتها. هذا لا يعني بالطبع أنّها كانت تفعل كل ما تريده، بل كان عليها أن تشعر بأنّها محبوبة، حتى لدى تلقّيها توبيخًا أو منعها من القيام بأمرٍ ما.
تغذّت كيارا من هذا المزيج الحكيم من الحبّ والانضباط، وأضافت إليه رغبتها في الحرّية واهتمامها الكبير بالآخرين، وهو أمر غير معتاد لطفلة صغيرة. تمتّعت بشغف حقيقي لقول الحقيقة والاهتمام بالأكثر حاجة، والأضعف، والمهمّشين من المجتمع، بخاصة كبار السنّ والأطفال.
كانت كيارا على هذه الحال منذ صغرها، وأُغْرِمَت بيسوع. لكن، كما في كل العلاقات العاطفيّة، نضج هذا الحبّ مع مرور الوقت وأصبح أقوى وأعمق تدريجيًّا.
-كيف كانت طفولة كيارا ومراحل نشأتها من الناحية الروحيّة؟
اكتشفت كيارا الإنجيل في سنّ مبكرة جدًّا، من خلال قصصٍ كثيرة رواها لها والداها كأنّها حكايات خياليّة. ثم، عندما أهداها كاهن الرعيّة إنجيلًا في احتفالها بالمناولة الأولى، أصبح هذا الكتاب المقدّس رفيقًا لا ينفصل عنها؛ كانت تأخذه معها وتقرأه في خلال تنقّلها بالحافلة في طريق عودتها من المدرسة.
بالنسبة إليها، لم يكن يسوع يومًا «حضورًا مجرّدًا»، بل كان «شخصًا» يدخل حياتها اليوميّة بطريقة ملموسة جدًّا. في هذا السياق، كان لوالدتها دورٌ محوري: يكفي أن نعلم أنّ كيارا حين كانت في شهرها السادس، بدأت ماريا-تريزا تأخذ ذراعيها الصغيرتين لتجعلها ترسم إشارة الصليب.
-كيف تساهم الأمّ في تربية أولادها على الإيمان والرجاء والمحبّة؟
يجب علينا أنّ نفهم أنّ الزوجين، قبل أن يعلّما أبناءهما، عليهما أوّلًا أن يتعلّما كيف يربّيان نفسيهما على المحبّة. من هنا، تأتي المسؤوليّة الأساسيّة لكل زوجين في أن يقدّما ما كان يُسمّى في الماضي «المثال الصالح». يجب على الأمّ أن تتعلّم إنكار نفسها قبل أن تتحدّث، حتى لو تطلّب الأمر فقدان سلطتها أحيانًا كي تتأكد أنّها ليست المتكلّمة، بل يسوع الساكن في أعماقها. من جهة أخرى، عندما يهبك الله طفلًا، يمنحك النعمة التي تعينك على تربيته. كانت هذه الحال أيضًا مع والدَي كيارا؛ فقد أظهرت لنا كيارا كيف أنّ المحبّة أقوى من أيّ قاعدة.
-كيف كانت علاقة كيارا بحركة الفوكولاري، وكيف ساهمت في تعزيز إيمانها؟
أزهر مثال كيارا لوبيك في قلب كيارا بادانو منذ البداية، وفي حياتها اليوميّة، وأسرتها، وعلاقاتها مع الأصدقاء، ومع جميع المحيطين بها. كان اللقاء مع حركة الفوكولاري، حين كانت في التاسعة من عمرها، فاصلًا: هناك وجدت البيئة المناسبة والأشخاص الذين جعلوا ما كانت تشعر به دائمًا أكثر واقعيّة.
لم يكن ذلك فقط لأنّ كاريزما كيارا لوبيك تتغلغل في كل جوانب الحياة وفي أيّ دعوة، بل لأنّها أضافت بعدًا عالميًّا ساحرًا للفتاة اليافعة التي اعتادت حتى ذلك الحين التعامل مع عالمها الصغير في بلدة ريفيّة. يمكننا القول حقًّا إنّ اللقاء مع حركة الفوكولاري حصل بتدبيرٍ من العناية الإلهيّة، وليس من أجلها فقط…
بدأت كيارا فورًا في مشاركة روحانيّتها التي تقوم على مبدأين أساسيين: الوحدة العالميّة، باعتبارها الهدف الأمثل، ومصير البشريّة. أمّا الطريق لتحقيق ذلك، فيتجلّى في الحبّ المميّز وغير المشروط لذلك الإله الذي بدا كأنّه مُلغى وفاشل في الظاهر. وقد صرخ قبيل موته على الصليب: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟».
-كيف كانت ردّة فعل والديها عندما علما بتشخيص إصابتها بالسرطان، وكيف واجها هذه الحالة؟
سبّب اكتشاف إصابتها بالسرطان صدمةً قويّة للجميع كالصاعقة؛ أوّلًا لوالديها، ثم للشبيبة في الحركة. عندما أدركت والدتها خطورة الورم، شعرت كأنّها تحتضر؛ احتضنت مع روجيرو، والد كيارا، بعضهما البعض وطلبا من الله القوّة ليقولا «نعم»، على الرغم من خوفهما من أن يأخذ الله طلبهما على محمل الجدّ. ثم أوكلا أمر كيارا إلى العذراء المباركة بكل ما يملكان من قوّة؛ وهكذا فعل كثيرون.
واليوم، بعد سنوات، يمكننا القول حقًّا إنّ العذراء المباركة استجابت لنا لأنّ مريم أخذتنا مع كيارا بيدها منذ تلك اللحظة حتى النهاية. على هذا الأساس، بدأت كيارا مسيرتها على درب الآلام، بين الاستشارات، والفحوص، وتحاليل الدم، ودخول المستشفى، والعمليّات الجراحيّة التي أصبحت أكثر إيلامًا.
بالطبع، كافحت كيارا لقبول ما كان الله يطلبه منها. وكانت هناك لحظة معيّنة تمرّد فيها كل شيء داخلها كأنّها عانت من انهيار روحي. لكن تلك الظلمة لم تستمر إلا صباح يوم 14 آذار 1989: بعد 25 دقيقة من صراع داخلي شديد، استطاعت كيارا أن تقول «نعم» لله مرّة أخرى. ومنذ تلك اللحظة، لم تلتفت إلى الوراء أبدًا.
-كيف تصفين دعم كيارا للآخرين من سريرها في المستشفى وتأثيرها الروحي على المحيطين بها؟
كانت كيارا محاطة بالمحبّة والدعم من خلال وجود أصدقائها وعائلتها وكل من تأثر بتجربتها. لم يكن الأمر مجرّد تضامن عابر، بل مشاركة حقيقيّة في عمق معاناتها ومسيرتها الروحيّة. لم يساهم هذا الجوّ من التعاضد في التخفيف عنها فحسب، بل شكّل عزاءً كبيرًا لوالديها ولنا؛ بالطبع، كان والداها دومًا في الصفوف الأماميّة، لكنهما علما أنّ هناك مجموعة من الناس تساندهما.
البعض تولّى تحضير الطعام، والبعض الآخر ساعد في إدارة المنزل، وآخرون اهتمّوا بالمهمّات اليوميّة والأوراق، كما تفعل أيّ عائلة. في خلال إقامة كيارا في المستشفى، أصبح الباب الزجاجي لقسم الأورام نقطة تجمُّع للأصدقاء والمحبّين الذين انتظروا بشغف أيّ خبر عنها.
حرصت كيارا يوميًّا على إرسال والدتها لإطلاع الجميع على حالتها الصحّية، لكن الأهم من ذلك، لمشاركة ما كانت تعيشه من أعمق التجارب الروحيّة. كانت كلماتها وتجاربها شبيهة بنور يبدّد الظلام، ويخفّف عن عائلتها الألم، ويبعث الأمل والطمأنينة في قلوب المحيطين بها.
وهكذا، تشكّلت حلقة مباركة: خفّفت من وطأة الألم عن كيارا وعائلتها، وفي الوقت عينه، أنارت بوهجها كل من أُتيحت له فرصة المشاركة؛ كلٌ بطريقته وعلى قدر طاقته.
-ما الكلمات أو العبارات التي كانت تردّدها كيارا بشكل متكرّر قبل مرضها وفي خلاله؟
«من أجلكَ يا يسوع: إذا أردته أنت، فأنا أريده أيضًا». كانت هذه العبارة التي تردّدها كيارا يوميًّا في مواجهة كل عسر جديد. على الرغم من معاناتها، واصلت تقديم ما عاشته من أجل عدد لا يحصى من الأشخاص الذين يمرّون بالمصاعب، بإيمان مطلق وثابت بأنّ هذا الألم سيؤتي ثماره. كتبت في إحدى رسائلها: «مدركةً عدم استحقاقي، أحاول أن أقدّم معاناتي في أصعب اللحظات، واثقةً بمحبّة الله». وأضافت: «لا يشغلني سوى تحقيق إرادة الله، وتنفيذها على أكمل وجه في اللحظة الحاضرة: المشاركة في اللعبة الإلهيّة».
-كيف أثّر قرار كيارا بعدم تناول المسكّنات الإضافيّة على والديها؟
اختارت كيارا التخلّي عن مسكّنات الألم لأنّ المورفين سلبها صفاء ذهنها، ولم تكن قادرة على تقديم آلامها ليسوع إلا وهي في وعيها الكامل. كما شعرت بأنّ الله يطلب منها السعي إلى ما هو أعظم أو على الأقل، هذا ما شعر به كثيرون منا، بمن فيهم أهلها.
لكنني أعتقد أنّ ما جعلها وتجربتها مع المرض فريدة إلى هذا الحدّ يكمن في أنّ الألم لم يكن يظهر على كيارا إلا في حالات نادرة للغاية. بدلًا من ذلك، كانت تنقل الفرح إلى المحيطين بها، كأنّ هذا الأسلوب في العيش لم يكن إنجازًا خارقًا، بل نتيجة منطقيّة لعلاقة وحقيقة إلهيّة. وبالتالي، كان أكثر أهمّية وشمولًا من أيّ معاناة. حقيقة صوفيّة أو نعمة أو قوّة، لكنها مع ذلك، قريبة المنال ومرغوبة من الجميع.
-ما اللحظة الأكثر تأثيرًا التي تذكرونها من فترة مرض كيارا حتى انتقالها إلى السماء؟
بالنسبة إلى كيارا، لم يكن الألم، أيّ ألم، لعنةً أو عدوًّا يجب محاربته. وربّما لم يكن مجرّد عقبة يجب تجاوزها، بل فرصة لمواصلة النمو في المحبّة. لهذا السبب، يتبادر إلى ذهني أنّ السنوات الستة عشرة الأولى من حياتها ربما كانت إعدادًا للسنتين الأخيرتين: السرطان لم يمثّل أيّ تغيير في مسار حياتها الوجودي، بل كان فرصة لتسريع خطواتها وإتقانها.
والد كيارا، عند استعادة ذكريات فترة مرضها، أكد أنّ تلك المرحلة مثّلت «السنتين الأكثر بركة في حياتنا، وهي أشبه بالنظر إلى العالم من نافذة طائرة: رأيت الألم في الأسفل، ألمنا وألم كيارا، والصعوبات اليوميّة اللامتناهية. لكن الأمر بدا كأنّ كل ذلك الألم بقي في الأسفل، بعيدًا، يكاد لا يلامسنا: كنا هناك في الأعلى، نتشارك لحظات من النعيم».
-ما الذي جعل كيارا تختار أن تكون مراسم وداعها مليئة بالفرح والألوان البيضاء؟
اعتبرت كيارا جنازتها زفافًا: مع الربّ الذي اختارته الآن عريسًا لها. كما فكرت في الفستان الذي سترتديه: أرادته بسيطًا، أبيضَ، وربما مع شريط وردي صغير على الوركين؛ جهّزته والدتي وخالتي لها. وبعد فترة قصيرة، أرسلت كيارا والديها إلى مدينة أكوي لشراء زيّ جديد لهما أيضًا.
لم تترك شيئًا للصدفة: «أمّي، تذكّري، عندما أدخل إلى الكنيسة يجب أن تغنّي بصوت مرتفع لأنّني سأغنّي معك من هناك. وكوني حذرة مع أبي لأنّه إذا بدأ في البكاء، سيُحْدِث ضجيجًا ويزعج الآخرين»، هذا ما اعتادت على قوله.
في الأيّام الأخيرة، عقدنا، أنا وهي، عهدًا مقدّسًا: من يذهب إلى السماء أوّلًا سيساعد الآخر على الوصول إليها، ومن يبقى سيتولّى ملء الفراغ الذي تركه الآخر. لإتمام ذلك، خلعت كيارا سوار الجلد الذي وضعته على معصمها وأعطته لي. استمر الأب لينو في إحضار القربان إليها حتى النهاية: من هنا، استمدّت كيارا القوّة لتعيش كل لحظة على أكمل وجه. أمّا كل ما تبقّى، فكان حبًّا لجميع من قابلتهم، وترقّبًا للقائها الأبدي مع يسوع.
-ما الرسالة التي تحملها كيارا إلى مرضى السرطان؟
بالطبع، هناك حالات شديدة، حيث من الطبيعي أن يغضب المرء أو أن يطاله اليأس في ظروف قاسية، وإلا لما كان إنسانًا، بخاصة عندما لا يُمْنَح الوقت للاستعداد. في بعض الحالات، لا توجد كلمات توفّر الراحة: يمكننا فقط أن نجعل مرضى السرطان يشعرون بقربنا منهم، ونتضرّع إلى الله ليساعدهم على المضي قدمًا، وقبول أسرار مشيئته رويدًا رويدًا.
مع ذلك، إذا نجحت كيارا ووالداها في هذه المهمّة، فمردّ ذلك إلى أنّهم كانوا محاطين بكثيرين ساندوهم وشاركوا في ألمهم. لهذا السبب، حتى في أصعب اللحظات، لم أرها أو والديها منعزلين عن أنفسهم أو ألمهم. إذا انغمس المرء في حبّ المحيطين به، لن يفكر في نفسه. كثيرون يشعرون بالأسى تجاه أنفسهم، وهذا لا يفيد كثيرًا. الطوباويّة كيارا لوتشي لم تكتفِ بالقيام بذلك، بل أظهرت لوالديها ولنا جميعًا أنّ هذه المهمّة أقلّ جنونًا وصعوبة ممّا قد يظنّه البعض.
-كيف تغيّرت حياتكم بعد إعلان كيارا طوباويّة، وكيف تشعرون تجاه تكريم الكنيسة لها؟
بالنسبة إليَّ، كما هو حال والدتها، الأمر لم يتغيّر كثيرًا: نتحدّث إلى كيارا كما كنا نفعل سابقًا، على الرغم من أنّنا نراها بعد تطويبها مغمورة بنور جديد يضيء طريقنا أكثر. لذلك، نستمر في طلب مساعدتها ونتكلّم معها مباشرة.
مع ذلك، لا أصف الأمر بأنّه «فخر»، بل أعتبره «مسؤوليّة». على سبيل المثال، يتعلّق ذلك بالالتزام بمؤسسة كيارا بادانو التي لا تزال مسؤولة عن جمع المعلومات عنها من كل أنحاء العالم، وإدارة الموقع الرسمي لها (https://www.chiarabadano.org/)، وحماية صورتها ونشرها بشكل أوسع، وحفظ الأماكن المرتبطة بها.
-بمَ شعرت والدة كيارا يوم إعلان ابنتها طوباويّة؟ إلى أيّ مدى يخفّف التطويب من آلام الرحيل والفقدان؟
تتذكّر ماريا-تريزا دائمًا أنّها عندما رأت ذلك الستار ينسدل، كاشفًا عن صورة ابنتها الكبيرة، أدركت أنّ كيارا أصبحت منذ تلك اللحظة ملكًا للجميع. وإذا كان هناك أيّ شيء خاصًا أو شخصيًّا، فعليها أن تتخلّى عنه في تلك اللحظة لأنّ كيارا أصبحت «كنيسة». كان عليها أن تدعها تذهب، رغم معرفتها أن لا أحد سيخسر شيئًا، بل على العكس…
-ما رسالة والدة كيارا إلى أمّهات العالم اليوم؟
نحن نميل دومًا إلى منح أطفالنا كل شيء، والأفضل. وهذا أمر طبيعي ويجب أن يكون كذلك. لكنني أعتقد أنّ الأمر الأهمّ ليس الثوابت أو الممتلكات المادّية المُقَدَّر لها أن تزول في النهاية. أعتقد أنّ المهم هو أن نغرس في أولادنا القيم والمبادئ التي لا تزول وترافقهم دومًا ليبنوا حياتهم على أسس لا تفسد مع مرور الزمن. أعتقد أنّ هذا الأمر ينطبق على الجميع، بغضّ النظر عن الإيمان. يقع على عاتق الأهل واجب نقل هذه القيم إلى أطفالهم، ثم سيتّخذون قراراتهم بوضوح. لكن ما يتلقاه الطفل، بخاصة في السنوات الأولى من عمره، يبقى معه إلى الأبد. وينطبق هذا الأمر على نقل الإيمان. تردّد ماريا-تريزا، والدة كيارا، دائمًا أنّها لا تستطيع ولا ترغب في تعليم أيّ أمر لأحد. أضف إلى ذلك أنّ الزواج يعطي كل زوجين نعمة خاصة، فهو سرّ يمنح كل والد أو والدة نعمة فريدة ومحدّدة لتربية الأولاد.
-ما القاسم المشترك الذي يجمع بين الطوباويّة كيارا والطوباوي كارلو أكوتيس؟
جمال القداسة يكمن في أنّ كل شخص مختلف عن الآخر، بحيث يمكن الوصول إليها بسبل مختلفة متعدّدة. طريق كيارا يختلف عن طريق كارلو، على الرغم من أنّهما توفّيا في سنّ مبكرة جدًّا. لكن إذا كان صحيحًا أنّ كل مسيحي مدعو إلى القداسة، فصحيح أيضًا أنّ الله فكّر في طريق لكل واحد منا، «خطة رائعة»، فريدة ومميّزة.
-تعرفون وضع لبنان الحالي، بلدنا عانى من حروب مستمرة. نشكركم على صلاتكم من أجلنا كما أخبرتمونا. ما الرسالة التي ترغب والدة كيارا بتوجيهها إلى اللبنانيين في هذه الأوقات الصعبة؟
أتصوّر، نظرًا لحساسيّة كيارا، كم كانت ستعاني أمام الكثير من الأوضاع المروّعة التي تحملها الأخبار إلى بيوتنا كل يوم. لكن، حتى وإن كان لدينا في كثير من الأحيان الانطباع أنّ قيمًا مهمّة تضيع وأنّ الظلام يطغى، ينبغي ألا نفقد أبدًا اليقين بإمكانيّة تحويل السلبيّة إلى إيجابيّة. إذا أغمضت عينيَّ، أشعر كأنّني أرى كيارا: بحماسها وإيمانها بإله هو أوّلًا وقبل كل شيء حبّ: لكل فرد. أعتقد أنّها كانت ستدعوهم إلى الصمود من دون فقدان الأمل والمحبّة المتبادلة.
-ما رسالة كيارا إلى العالم أجمع؟
ربما كانت ستردّد ما قالته لأقرانها في زمانها، قبيل وفاتها: الاستمرار في حمل الشعلة، مثل سباق التتابع الأولمبي، الشعلة التي مرّرتها إليهم. الآن، يجب أن يركضوا… وعليهم أن يؤمنوا بأنّهم مع يسوع إلى جانبهم، يمكنهم فعل أمور استثنائيّة حقًّا، أكثر ممّا فعلته. بالطبع، السباق هو سباق، ما يعني أنّ الشباب الذين يعتبرونها اليوم نموذجًا لهم، لا يمكنهم التوقف عند ابتسامتها الجميلة أو صورة جميلة: يجب عليهم أن يحملوا تلك الشعلة إلى الأمام، وليس أن يتركوها هناك وينظروا إلى الوراء. يجب أن تكون الأرجل لهم، وليس لطوباويّة… كانت كيارا لوتشي تذكّرنا، كما كانت تقول كيارا لوبيك، بأنّ لدينا حياة واحدة فقط، وهي تستحق أن نعيشها بشكل جيّد.
-ختامًا، علامَ تشكرون الربّ؟
لا يسعنا إلا أن نشكر الله على العطيّة العظيمة التي منحنا إيّاها، والمتمثّلة في كيارا، ونحمده على منحنا الفرصة لمشاركة جانبٍ فاصل من مسيرتها بعمق. نسأل الله أن يعطينا القوّة للبقاء دائمًا مخلصين لـ«نمط حياة» كيارا. كما يعلم كثيرون، كانت كلماتها الأخيرة: «وداعًا أمّي، كوني سعيدة لأنّني كذلك».
اليوم، مثل والدتها ماريا-تريزا، أشعر أكثر من أيّ وقت مضى بأنّها تطلب منا أيضًا أن نواصل السعي إلى البحث عن هذه السعادة وعيشها. لست دائمًا قادرة على ذلك، لكنني كلما فشلت، أحسّ بأنّها كانت على حقّ عندما ذكّرتنا، مع أمّها الروحيّة كيارا لوبيك، بأنّ جمال المسيحيّة يكمن في أنّنا نستطيع دائمًا أن نبدأ من جديد.
على الرغم من آلامها، وفي خضمّ صراعها مع المرض، ازدادت كيارا حبًّا لله، وعاشت حياة تفيض إيمانًا وتواضعًا. كانت حياة كيارا لوتشي بادانو دعوةً صادقة إلى المحيطين بها لعيش الإيمان والصبر والتفاني في الحبّ.
في لحظاتها الأخيرة، عانقت الأمل لتشهد أنّ الطريق إلى الله، مهما كانت عقباته، يحمل في طيّاته نعمًا عظيمة للذين يفتحون قلوبهم للمحبّة والتضحية والرجاء. رحيلها انتقال من الحياة الأرضيّة إلى الحياة الأبديّة، حيث لا ألم ولا معاناة، فقط السلام الأبدي في حضرة الربّ.
إنّ مسيرة حياتها، على الرغم من قصرها، تبيّن لنا أنّ الإيمان الصلب النابع من رحم المحن يبلغ أعظم تجلّياته في قلب صغير أزهر ألمه فرحًا سماويًّا.