غيتا مارون
جنّه بيريتا مولا… قديسة علمانيّة أدهشت العالم بتضحيتها من أجل طفلتها وجذبت نساء الكون إلى قلب يسوع.
أعلنها القديس البابا يوحنا بولس الثاني طوباويّة في 24 نيسان 1994، وقديسة في 16 أيّار 2004، بحضورٍ مؤثّر لزوجها بييترو الذي كان يبلغ من العمر 92 عامًا، ولأبنائهما بيار لويدجي ولاورا وجنّه-إيمانويلا.
زوجة محبوبة، أمّ مباركة، طبيبة مخلصة، مؤمنة شهيدة! سمات روحيّة ميّزت حياتها لتسطع في سماء الحبّ وتغدو «شفيعة الأمّهات والأطبّاء والأجنّة».
في 21 نيسان 1962، وُلِدَت جنّه-إيمانويلا، الطفلة التي ضحّت والدتها بحياتها من أجلها، لتصبح لاحقًا الشاهدة الأولى على محبّة والديها ومسيرتهما نحو القداسة، معلنةً للعالم رسالتهما بفرح عظيم.
الحياة أُنْقِذَت!
أسّست جنّه وزوجها المهندس بييترو مولا عائلة مسيحيّة حقيقيّة، وأنجبا ثلاثة أبناء: بيار لويدجي، وماريا زيتا (التي كانت تُلَقَّبُ بـ«ماريولينا»)، ولاورا. بعد ذلك، حبلت جنّه مرّتين من دون أن يُكمِلَ الحمل بطريقة طبيعيّة.
في أيلول 1961، في نهاية الشهر الثاني من حملها السادس، واجهت جنّه الألم والمعاناة: ظهور ورم ليفي كبير -ورم حميد- في رحمها.
قبل إجراء عمليّة استئصال الورم، على الرغم من علمها التام بالخطر الذي سيتبع استمرار الحمل، توسّلت جنّه إلى الجرّاح لإنقاذ حياة جنينها، متّكلة على الصلاة والعناية الإلهيّة. شارك بييترو زوجته قرارها واحترمه. الحياة أُنْقِذَت!
ووفقًا لشهادة بييترو، أمضت جنّه الأشهر السبعة المتبقيّة من الحمل بقوّة روحيّة لا تُضاهى وبتفانٍ ثابت كأمّ وطبيبة.
قبل الولادة، كانت جنّه مستعدّة للتضحية بحياتها من أجل إنقاذ طفلها، على الرغم من ثقتها الدائمة بالعناية الإلهيّة. وقالت لزوجها بييترو: «إذا كان لا بدّ من أن تختاروا بيني وبين الطفل، فلا تتردّدوا: اختاروا -وأطلب ذلك- الطفل. أنقذوه». مرّة أخرى، شارك بييترو قرار جنّه واحترمه.
في صباح 21 نيسان 1962، السبت المقدّس، وضعت جنّه مولودتها جنّه-إيمانويلا بعد خضوعها لعمليّة قيصريّة. بعد بضع ساعات، تدهورت حالتها الصحّية: ارتفعت حرارتها بشكل متزايد واشتدّت آلامها في البطن نتيجة التهاب الصفاق الإنتاني، وهو أحد مضاعفات الولادة.
توفّيت جنّه في 28 نيسان 1962، سبت أسبوع الفصح، عن عمر يناهز 39 عامًا فقط.
«قلم غار» يبحث عن جنّه-إيمانويلا
القديسة جنّه بيريتا مولا جذبتني، ولمستني بقوّةٍ تضحيتها من أجل طفلتها. حلمتُ بالتعرّف إلى ابنتها جنّه-إيمانويلا لأصغي إلى شهادتها الملهمة، وبدأتُ عمليّة البحث عنها!
رغبتُ في إشراك ابنة أختي المراهقة لميتا في التفتيش عن جنّه لأنّها تحبّ المهمّات الصعبة، وانطلقنا! تمكّنا من إيجاد دليل متعلّق بها، ونجحنا في التواصل معها بعد محاولات عدّة!
في البداية، لم تكن المهمّة سهلة لكن الإضاءة على شهادتها الملهمة مثّلت، بالنسبة إليَّ، حلمًا خرج من شرنقته وعانق الحقيقة!
بفيضٍ من الفرح العارم والامتنان، ينبض قلب «قلم غار» بالسرور لمشاركة متابعيه شهادة حياة جنّه-إيمانويلا مولا، الابنة الصغرى للقديسة جنّه بيريتا مولا وبييترو مولا، التي تُنشر للمرّة الأولى باللغة العربيّة عبر منبرنا.

صلاة بييترو مولا اليوميّة
تؤكد جنّه-إيمانويلا أنّها تعتبر والديها جنّه وبييترو مولا قديسين معًا، وتشاركنا هذه الرسالة التي خطّها أبوها بحبٍّ، وهي تتضمّن صلاة تلاها يوميًّا، متضرّعًا إلى الله وزوجته القديسة ومسلّمًا حياته بكلّيتها لمشيئة الربّ، قائلة: «بعد بضعة أشهر من عبور والدتي إلى السماوات، كتب والدي رسالة طويلة إلى خالي الأب ألبرتو، شقيق زوجته الذي كان يحبّه كثيرًا وهو يعيش في البرازيل. تنتهي الرسالة بهذه الصلاة الرائعة:
“عزيزي الأب ألبرتو،
كل يوم، منذ انتقال جنّه إلى السماء، أرفع هذه الصلاة إلى الربّ وإلى جنّه: يا يسوع، أنتَ الذي دعوت بين ملائكتك وقديسيك زوجتي وأمّ أولادي، هبني أن ينمو أولادي اليوم أيضًا في الحكمة والنعمة معك، مع سيّدتنا العذراء، مع أمّهم القديسة، مع أحبّائهم ومع الناس، كما نَمَوْتَ أنتَ في عائلتك المقدّسة في الناصرة، وكما عرفت أمّهم القديسة كيف تربّيهم، يومًا بعد يوم. احفظهم بصّحة العقل والجسد، كما عرفت أمّهم القديسة، بنعمتك وبركتك، كيف تحافظ عليهم برعايتها الحكيمة والمُحِبَّة جدًّا.
امنح أولادي أن يكونوا دائمًا مستحقين، كل يوم من حياتهم، قداسة أمّهم القديسة واستشهادها. هبني ألا أكون أقلّ استحقاقًا من قداسة زوجتي، وأن أستطيع الحلول مكانها، بنعمتك، في محبّة أولادنا وإرشادهم. امنحني وأولادي أيضًا النعمة، واليقين، والراحة الفائقة الوصف التي جعلت القديس أغسطينوس يكتب عن أمّه القديسة في السماء: “عندما كنتِ على قيد الحياة، كنتُ أراكِ أينما كنتِ. الآن وقد صرتِ في السماء، أشعر بوجودك أينما كنتُ.
وأنتِ، يا جنّه، ساعديني يومًا بعد يوم، على حمل صليبي، لتحقيق إرادة الربّ بطريقة بطوليّة. عسى أن تنالي أيضًا لأبنائنا ولي النعمة الإلهيّة التي تجعلنا قديسين.
امنحينا أن يقرّبنا كل يوم أكثر منكِ، وأن نصعد كل يوم درجة في سلّم يعقوب الروحي حيث تنتظريننا في أعلاه. وهَبِينا عندما يدعونا الربّ إلى ملاقاته أن يجدنا مستحقين الاقتراب منكِ، قريبين، قريبين، إلى الأبد. آمين”».

الأبديّة لا تكفي لشكر الربّ
تواصل جنّه مشاركة اختبارها العميق بالقول: «أتذكّر أنّ والدي كان يصلّي كثيرًا، وأنّه استمرّ في شكر الربّ على كل شيء؛ لقد أذهلتني حقيقة أنّه، على الرغم من معاناته الكبيرة في حياته، كان يقول لي دائمًا: “لن تكفيني الأبديّة لأشكر الربّ على كل النعم التي منحني إيّاها في حياتي الطويلة”، مشيرًا بشكل خاص إلى نعمة تمكّنه من حضور احتفال إعلان أمّي قديسة على يد البابا القديس يوحنا بولس الثاني في ساحة القديس بطرس في روما.
عندما وافته المنيّة في 3 نيسان 2010، السبت المقدّس، أرسل الكاردينال كارلو ماريا مارتيني، رئيس أساقفة ميلانو الفخري، رسالة مكتوبة بخط اليد إلى عائلتي مفادها الآتي: “من أعماق قلبي، أتقدّم بالتعازي لوفاة المهندس مولا الذي كان زوج القديسة جنّه. ستكون قد استقبلته في الجنّة بفرح عظيم، تزامنًا مع اقتراب عيد الفصح”.
منذ ذلك السبت المقدّس، أفكر في «والدي الذهبي» الحبيب جدًّا -كانت جنّه تناديه بمحبّة: «بِترين دورو» (الصخرة الذهبيّة)- المتّحد إلى الأبد مع زوجته المحبوبة وأمّي الحبيبة جدًّا؛ أشعر دائمًا بأنّهما قريبان منّي، بل أكثر من ذلك، “متشبّثين” بي، من أجل حمايتي وإرشاد خطواتي؛ ألجأ إليهما باستمرار في صلواتي، وأشعر بأنّهما يصغيان إليَّ».

الربّ باركني بوالدَيْن «قديسَيْن»
تتحدّث جنّه-إيمانويلا عن أعظم بركتين في حياتها، شارحة: «يخبرني الناس، من مختلف أنحاء العالم -الكرادلة، الأساقفة، الكهنة، المكرّسون، منهم الراهبات المتوحّدات، والعلمانيّون- ويكتبون لي أنّ الربّ قد باركني بوالدَيْن قديسَيْن، وأنّ جنّه وبييترو هما زوجان قديسان، ويقولون إنّهم يصلّون لهما، طالبين شفاعتهما. من ناحية أخرى، كما يمكن قراءته في الرسائل التي كتبَتها له، كانت والدتي هي أوّل من اعترف بقداسة والدي، واتّبعت مثاله؛ والآن بعدما أعلنتها الكنيسة قديسة، تكتسب كلماتها معنى وقيمة أكبر».
تتابع جنّه-إيمانويلا: «في خلال الصوم الكبير في العام 2014، دعتني رعيّة القديس غريغوريوس الكبير في ميلانو للتعليق على المحطات الأربع الأخيرة من درب الصليب، وطلبت منّي بشكل خاص أن أتناول هذا الموضوع: “ماذا تعلّمني حياة والديّ عن درب الصليب؟”. أعترف أنّه لم يكن سهلًا بالنسبة إليَّ: صلّيتُ وطلبتُ مساعدة الروح القدس لينيرني، فوُلِدَت هذه التأمّلات:
تعلّمني حياة والديّ القديسَيْن أن “درب الصليب” هو بالتأكيد الطريق الصحيح الذي يجب أن أسلكه لكي أتمكّن من التمتّع، يومًا ما، بفرحة الجنّة، فرحة معاينة الله، وإلى الأبد.
درب الصليب، المرتبط ارتباطًا وثيقًا وغير قابل للانفصال بدرب القيامة، كما شهد وبيّن ربّنا يسوع، هو بشريًّا الطريق الأكثر إزعاجًا وصعوبة؛ لكنني أعتقد أنّه الطريق الوحيد الذي يسمح لنا بإعطاء حياتنا معنًى كاملًا وشاملًا.
يقتضي، كما علّمتنا أمّنا السماويّة جيّدًا، “نَعَمًا” غير مشروطة ومستمرة لإرادة الآب، قبولنا المتواضع لإرادته المقدّسة، دائمًا وكيفما كان، حتى عندما لا نفهمها».
وتضيف جنّه-إيمانويلا، شاهدةً على أهمّ الدروس التي تعلّمتها من أهلها: «تعلّمني حياة والديّ القديسَيْن أنّ “درب الصليب” هو بالتأكيد أيضًا “طريق الفرح”، الفرح الأكثر صدقًا وعمقًا، تمهيدًا لذلك الفرح الأكبر والأعمق الذي سيكون في وسعنا الاستمتاع به يومًا ما، وهو رؤية الربّ، وإلى الأبد.
أن يكون الربّ في قلوبنا، أن نحقق إرادته المقدّسة، أن نرى كل شيء يحدث لنا في ضوء الإيمان، يقودنا، بينما نسير في درب الصليب، إلى الفرح والشعور بواجب شكر ربّنا باستمرار على كل شيء، على كل نَفَسٍ من أنفاسنا -كما علّمني والدي- على كل هبة من هباته… حتى على المعاناة.
وكلما أطلّت معاناة “جديدة”، حتى وإن كانت قاسية جدًّا، من تلك الأوجاع التي تحلّ كـ”صاعقة من السماء”، وتحصل، على الرغم من ذلك، كنعمة لتشدّد الإيمان، أعتقد: “أنا على الطريق الصحيح…”، وهذا التفكير يشجّعني ويساعدني كثيرًا على قبول المعاناة، ورويدًا رويدًا، بمساعدة السماء وأحبّائي، على مواجهتها و”تجاوزها”، إذا جاز التعبير، بقدر الإمكان بشريًّا، مع التفكير الدائم في الخير والفرح الأعظمين اللذين ينتظرانني»…
شكرٌ متواصل لله
تختم جنّه-إيمانويلا مولا مشاركة «قلم غار» اختبارها الرائع، مؤكدة أنّها ترفع الشكر لله دومًا: «في كل صباح عندما أستيقظ وأفتح عينيَّ، بعد أن أشكر الله على نعمة الحياة، أصلّي للربّ وللسيّدة العذراء وللقديس يوسف ليعينوني على ألا أكون أقل استحقاقًا أمام قداسة والديّ. أعيش بقلب مفعم بالفرح والأمل لأتمكّن من احتضانهما مجدّدًا، مع ماريولينا وجميع أحبّائي الآخرين، يومًا ما، وهذه المرّة، إلى الأبد، حتى لا نفترق مجدّدًا!».

يا لها من شهادة نابضة بالمحبّة والتضحية والصفاء!
جنّه-إيمانويلا مولا، الشاهدة على عبق قداسة والديكِ،
لقد حملتِ شعلة حبّ أهلك بأمانة وأوصلتها أينما حللتِ!
الشكر لله على عطاياه اللامتناهية التي يغمرنا بها وسط الشدائد!
الشكر لله على حبّه المنثور في كنيسته!
الشكر لله على نعم القديسين في عالم اليوم!
الشكر لله لأنّه افتدانا على الصليب وأشرق نور قيامته ليغيّر وجه الكون!