غيتا مارون
القديسون الإخوة المسابكيّون فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل، ثلاثة شهداء موارنة من عائلة مسابكي عاشوا في دمشق، وتعرّضوا للاضطهاد بسبب دينهم. رفضوا التخلّي عن إيمانهم وتحمّلوا المعاناة حتى الاستشهاد، ما جعلهم رموزًا للإيمان والبسالة.
على الرغم من أنّ قداستهم لم تُعْلَن بناءً على أعجوبة، فقد نثر شهداء دمشق النعم الإلهيّة على المؤمنين، بما في ذلك معجزات موثّقة في ملفّ القديسين المسابكيين، منها أعجوبة شفاء د. رهف لبّس التي حصلت بشفاعتهم في العام 2006.

ما تفاصيل المعجزة الموثّقة؟
د. رهف لبّس (29 عامًا)، طبيبة اختصاصيّة في أمراض الكلى، مدرّسة تعليم مسيحي، ملتزمة في العمل الرسولي منذ 14 عامًا، أصلها من قرية الخريبات (ريف طرطوس-سوريا)، تخبر «قلم غار» عن تفاصيل أعجوبة شفائها الموثّقة في ملفّ قداسة الإخوة المسابكيين الموارنة:
«في سنّ العاشرة، أصبتُ بمرض تسبّب في تدهور حالتي الصحّية. بدأت عوارض مرضي بالتهابات في الجهاز التنفّسي والأمعاء مترافقة مع حرارة مرتفعة، فاعتقدت العائلة أنّ المسألة بسيطة ويمكن معالجتها في المنزل. بعد أسبوع من تفاقم الأعراض، تدهورت حالتي، وأصبت بالتهاب في الكبد واصفرار في البشرة وأوجاع شديدة في البطن، فضلًا عن التقيّؤ والإسهال، ما استدعى إدخالي إلى المستشفى.
على مدار أربعة أيّام، خضعت لفحوص وتحاليل من دون التوصّل إلى تشخيص واضح لحالتي. أحد الأطبّاء اقترح استئصال المرارة بعد اكتشاف سماكة على جدارها وتضخّم في الكبد والطحال. أما طبيب الأطفال، فقد اعتبر أنّ هناك التهابات عدّة من دون تشخيص قاطع. وسارت الشكوك باتجاه حمّى تيفيّة (تيفوئيد)».
اشتداد المرض وفقدان الأمل
تواصل د. رهف سرد ما حصل معها: «بعد أيّام من الحرارة المرتفعة، سبّبت لي الأدوية حساسية. رافقتني صلوات أهلي والمحيطين بي حتى ليل الأربعاء 18 كانون الثاني 2006. حينها، رأى الطبيب وجوب استئصال المرارة أو إرسالي إلى مستشفى الأطفال في الشام أو مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت.
يومذاك، زارتنا سيّدة من الأخويّة المكرّسة لمريم العذراء في القرية، وقالت لي: “شاركنا اليوم في القداس ورفعنا الصلوات من أجل شفائك، طالبين شفاعة العذراء والقديسين”.
لم تهدّئ هذه الكلمات من روعي… فقدت الأمل! نزعت صليبي، وطلبت من الجميع التوقّف عن الصلاة. شعرت بأنّني غير محبوبة من يسوع ومريم العذراء…».
قصّة الفرسان وحلم المسابكيين
تتابع د. رهف: «في تلك الليلة، عند الساعة 12 ليلًا، قرأت لي أمّي قصّة الفرسان الثلاثة. من ثم غفونا… رأيت الغرفة تُضاء بثلاث فُتحات من نور، ويخرج منها ثلاثة أشخاص يرتدون الأبيض ويحملون مسابح زرقاء. الشخص الأطول بينهم وضع يده على بطني بينما رفع الآخران الصلوات ساجدَيْن. أحسست بكتل ناريّة تخرج منّي، وكنت أتعرّق، لكنني شعرت بتحسّن كبير. طلبت من الأشخاص الثلاثة البقاء، فأخبرني الشخص الأطول أنّه يجب عليهم زيارة أطفال آخرين… فُتحت من جديد المنافذ العلويّة في الغرفة، وخرج الثلاثة منها…
استيقظت والدتي، وسمعتني أقول: “دعيهم يبقون هنا ولا يبرحون المكان!”. اعتقدت أمّي أنّني أهذي بسبب الحرارة المرتفعة، فقالت: “من تقصدين؟ أبطال القصّة؟ لا أحد منهم هنا”. أجبتها: “كلا! هؤلاء ليسوا الفرسان الثلاثة”… هدّأت من روعي، ونمنا من الساعة الخامسة حتى الثامنة».

شفاء عجيب وشفاعة دائمة
في صباح اليوم التالي، استيقظت رهف بدون آلام أو حرارة. أجرى لها الأطبّاء الفحوص اللازمة مرّات عدّة ووجدوا أنّ حالتها قد تحسّنت بشكل غير مُبَرَّر طبّيًا. بعد إجراء المزيد من التحاليل والصور المغناطيسيّة، تبيّن أنّ كل النتائج طبيعيّة تمامًا. حينها، كتب الطبيب فواز زغيبي تقريرًا يفيد بأنّ القدرة الإلهيّة منحت الطفلة رهف الشفاء إذ إنّ تعافيها لم يكن له أيّ تفسير طبّي. خرجت من المستشفى، وعادت حالتها طبيعيّة، وقدّمت أسرتها لزائريها صورًا للمسابكيين وأخبرتهم عنهم وعمّا حصل مع ابنتهم.
تروي د. رهف: «وصل خبر شفائي إلى الضيعة. عندئذٍ، زارني الأب غاندي مهنّا الذي ترأس الذبيحة الإلهيّة حينما رفع الجميع الصلوات من أجل شفائي، وسألني عمّا جرى معي. آنذاك، تذكّرت تفاصيل الحلم. استوضح: “من رأيتِ في حلمك؟”. قلت له: “لا أعرفهم”. سألني: “هل رأيتِ مار شربل أو مار الياس؟”. أجبته: “كلا، إنّها المرّة الأولى التي أرى فيها هؤلاء الأشخاص”.
أراني صورة الإخوة المسابكيين القديمة، طارحًا السؤال حول هويّتهم. فجاء ردّي فورًا: “نعم. لقد حضروا أمامي كما رُسِموا”. فقال لي: “إنّهم الإخوة المسابكيّون، وهم شفعائي في الكهنوت. لقد طلبت شفاعتهم في القداس الذي ذكرناكِ فيه. أنا متأكد من أنّ ما حصل معك شفاء”…
بعدئذٍ، عدت إلى حياتي الطبيعيّة بسرعة: المدرسة والتعليم والكنيسة. منذ ذلك الحين حتى اليوم، مرّ 19 عامًا، لم أضعف أمام المرض أبدًا بعد شفائي…».

توثيق الأعجوبة في ملفّ قداسة المسابكيين
عن توثيق الأعجوبة التي حصلت معها في طفولتها وبدّلت مسار حياتها، تخبرنا د. رهف: «في العام 2007، بعد مرور سنة على شفائي، قصدت الشام لأبحث عن الكنيسة التي تحتضن ضريح الإخوة المسابكيين الموارنة لأصلّي فيها. وجدتها بسرعة إذ كانت أوّل كنيسة دخلتها لأسأل عنهم. الكهنة سمعوا قصّتي، ورأوا وجوب أن أقدّم لهم التقارير والتحاليل التي تثبتها. أرسلت إليهم ما كان في حوزتي.
في العام 2012، تحدّث معي كاهن من مطرانيّة الشام لمتابعة شهادتي لكن الحرب الدائرة حينها منعتني من الذهاب إلى هناك.
في العام 2020، سنحت لي الفرصة لأذهب إلى مطرانيّة الشام من أجل متابعة التحقيق. قدّمت شهادة كاملة مع الأب مارون توما وسجّلتها وأرفقتها بتقارير أخرى لأنّ القديمة احترقت عندما تعرّضت المطرانيّة للقصف في أثناء الحرب.
أمّا التحقيق الرسمي الفعلي في الأعجوبة، فبدأ في ليلة الميلاد من العام 2022. في صيف تلك السنة، قصدنا المطران الياس سليمان، مكلّفًا من المطران يوحنا رفيق الورشا بمتابعة التحقيق، برفقة أشخاص من لبنان.
من ثم، جاء المطران سليمان إلى منزلنا في ليلة الميلاد؛ بعد قداس العيد، قصدنا عيادة د. فواز زغيبي، فسأله عمّا جرى معي وطلب شهادته. بحثنا في مستشفيات طرطوس عن الممرّضة التي كانت حاضرة معنا في تلك الليلة. بعد تفتيش طويل، وجدناها لكنها كانت مريضة وتركت التمريض ولم تعد ذاكرتها تسعفها، فلم نتمكّن من تدوين شهادتها. تابعنا التحقيق مع المطران سليمان في ليلة عيد الميلاد، فدوّن شهادة أهلي والأب غاندي وسيّدات من الأخويّة وراهبات حضرن ذلك القداس حيث رُفعت الصلوات من أجلي. جمع المطران سليمان هذه الشهادات وأرفقها بالملفّ».
أثرٌ طُبِعَ في أعماق الروح
في ما يتعلّق بالأثر الروحي الذي تركه المسابكيّون في أعماقها، تقول د. رهف: «بعد اختباري مع المسابكيين، قرّرت أن أبقى متمسّكة بالأمل، مهما اشتدّت الأزمات والمشكلات. أنا أطلب شفاعتهم دائمًا… تعلّمت أنّ الله يمتلك الحلّ الثالث الذي لا يخطر في بالنا. نحن نفكر بأنّنا أمام حلّين وعلينا أن نختار واحدًا منهما. الحلّ الثالث يعالج الأمور بدون شعورنا ويجعلها تسير لخيرنا.
مهما تفاقمت الشدائد، أقول للربّ: “لتكن مشيئتك!” بشفاعة الإخوة المسابكيين، لن أفقد الأمل، وسأنتظر الحلّ الثالث الذي لم يخطر في بالي».
تختم د. رهف سرد اختبارها عبر «قلم غار»، رافعةً صلاة شكر إلى الله: «يا ربّ، أنتَ تعلم أعماقي واحتياجاتي. أنتظر منك الحلّ الثالث بشفاعة مريم العذراء والإخوة المسابكيين الموارنة والقديسة ريتا شفيعة الأمور المستحيلة».

تجدر الإشارة إلى أنّ «قلم غار» سلّط الضوء على مسار دعوى تقديس الإخوة المسابكيين الموارنة عبر مقابلة خاصة مع المطران يوحنا رفيق الورشا وأوضح اهتمام الكنيسة المارونيّة في لبنان بملفّ قداسة شهداء دمشق عبر مقابلة خاصة مع المطران غي بولس نجيم.
كما أجرى موقعنا مقابلتين عابقتين بالنعم الإلهيّة مع بشارة سرحال حفيد القديس عبد المعطي مسابكي، وفادي مسابكي حفيد القديس فرنسيس المسابكي.