غيتا مارون
مرغريت أبي خليل حشاش قاومت مرض السرطان، وتحدّت الأوجاع، ولم تُهزم!… كانت تستعدّ لعرسها، وكاد المرض الخبيث أن يدمّر حياتها، لكن مساندة خطيبها جعلتها تتخطّى العثرات وأكملت المسيرة حسب مشيئة الربّ…
بين الترهّب والارتباط
“قبل أن أتعرّف إلى زوجي، رغبت في التكرّس لله، وكنت آنذاك طالبة جامعيّة أتابع دراسة الهندسة.
كانت الحياة الرهبانيّة تجذبني جدًّا، فتركت الجامعة بهدف الدخول إلى الدير لكنني قرّرت التريّث قبل اتخاذ قراري النهائي.
من ثمّ، غيّرت اختصاصي، واخترت الأدب العربي ولا سيّما أنني أحبّ كتابة الشعر والنثر، فشعرت بأن هذا الاختصاص مناسبٌ لي وسأجعله في خدمة الرسالة التي أريدها…
في اليوم الذي قصدت فيه الجامعة من أجل إتمام معاملات التسجيل، تعرّفت إلى “بديع”، وتطوّرت العلاقة من صداقة إلى علاقة جدّية تهدف إلى الارتباط”.
عندما قرع “الخبيث” بابي…
وتتابع مرغريت: “كنت أبلغ من العمر 23 عامًا عندما بدأت عوارض مرض أجهل ماهيّته هجومها على جسدي، فبدأت أعاني من السعال القويّ والارتفاع في الحرارة، وأجريت فحوصات عديدة وخزعة جراحيّة وكان الألم قد بلغ كتفي… وكنت، حينذاك، أقوم بتمارين رياضيّة قاسية، فرجّح الطبيب احتمال تعرّضي لتمزّق العضلات، ووصف لي علاجًا لم يأتِ بنتيجة لمدّة شهر، إلا أنني كنت متيقّنة بإصابتي بالسرطان…
وأخبرت الطبيب بأنني أشعر بضيق في التنفس، ولاحظ الورم الذي غطّى كتفي… وبلغ قطره 9 سنتيمترات ووصل إلى القفص الصدري، مشكّلًا ما يشبه القلادة حول رقبتي. وتابعت الفحوصات التي بيّنت وجود عقدة عصبيّة ganglionقد تكون ورمًا سرطانيًّا، وحاول الطبيب المعالج أن يطمئنني عندما قال لي إنها ربما مجرّد إفرازات بسبب تغييرات بيولوجيّة، لكنني لم أصدّقه… وبعد إجراء الخزعة، جعلنا الطبيب نرى العقد العصبيّة التي استأصلها وهي شبيهة بالكرات الصغيرة الزهريّة اللون لافتًا إلى أنها مجرّد أمور روتينيّة”…
زفافي مؤجل… حتى إشعار آخر
وتقول مرغريت: “لم أصدّق ما قاله الطبيب وقمت بأبحاث حول اسم الورم الذي قيل لي إنني مصابة به، وكانت النتائج مقلقة… واختلطت الأمور عليّ… فكّرت أنني لست وحدي، فأنا مرتبطة برجل، ونخطّط لنكمل مشوارنا معًا، ونحضّر لعرسنا الذي كان مقرّرًا بعد أربعة أشهر، وكنّا قد أنهينا الحجوزات: الكنيسة والمطعم… فكنت مضطرة إلى تأجيل زفافي، وبدأت أتصرّف بطريقة تزعج خطيبي عمدًا كي يرحل من حياتي… حاولت أن أجعله يشعر بأنني أهمله، إلا أنه كان يعلم أن هناك أمرًا غريبًا يحصل معي إذ كان يتابع وضعي الصحّي بدقّة”…
الحبّ الحقيقي لا يرحل
وتخبر مرغريت: “أظهرت نتائج الفحوصات أنني مصابة بالسرطان، وعليّ أن أتابع علاجًا كيميائيًّا وإشعاعيًّا… للوهلة الأولى، قلقت من مسألة تساقط شعري، وكانت هذه النقطة تعني لخطيبي “بديع” أيضًا، فحاولت استغلالها لأبعده عني إلا أن الأمر لم ينجح…
وكان الطبيب قد أشار إلى أن العلاج يبدأ نفسيًّا، لافتًا إلى وجوب البدء به بعد يومين… وبدأت معاناتي التي حاولت أن تكسر صلابتي، وتسرق فرحي… واجهنا صعوبات جمّة، منها توفّر الدواء… إلا أن نعمة ربّنا كانت تسهّل لنا تأمينه”…
وتقول مرغريت: “طلبت من أمّي عدم إخبار أبي بحقيقة مرضي، إذ كنت شديدة التعلّق بوالدي الذي كنت أشاركه الكتابة والرسم والنشاطات، خوفًا من أن يؤثر الخبر على صحّته سلبيًّا… وطلبت من “بديع” أن أقابله في ذلك اليوم مشدّدة على أن الموضوع لا يمكن تأجيله، فأخبرته الحقيقة، وقلت له: لن أبقى كما كنت، أنا مصابة بالسرطان، ولا أعرف إن كنت سأحيا أم سأموت… سأتغيّر نفسيًّا وشكلي سيتبدّل، وتصرّفاتي أيضًا، وسأصبح عدائيّة…
في فترة إصابتي بمرضي، لم أبكِ إلا في تلك اللحظة، فكان “بديع” كالمبنّج عند سماع الخبر… قلت له: ارحل… أريد أن ننهي علاقتنا، لا أريد أن يتحوّل حبّك لي إلى شفقة… أتمنّى لك حياة سعيدة، أن ترتبط بامرأة صالحة وتؤسس عائلة… كنت أحبّه جدًّا ولم أعرف كيف كانت لي القوّة لأقول له: ارحل… ضمّني إلى صدره وقال: أنا جائع…وأصرّ على تناول العشاء معًا وكأنّ شيئًا لم يكن”…
ملاكي الحارس رافقني في رحلتي مع الأوجاع
وتتابع مرغريت: “في اليوم التالي، اتّصل بي بديع وقال: غدًا، سأرافقك إلى العلاج الكيميائي… نعم، لقد رافقني خطيبي في فترة علاجي، وكنت أحاول أن أكون عدائيّة تجاهه ما سبّب له الألم، لكنه لم يقم بأي ردّة فعل… وكلما رفض طلبي بالخروج من حياتي، شعرت بالقوّة ووجوب أن أكون أكثر صلابة من أجله… لم يتركني أبدًا، فإذا غفوت في وقت تلقّي العلاج، عندما أصحو، أجده إلى جانبي… رافقني كظلّي… ضحّى بعمله من أجل مرافقتي إذ اضطر إلى ترك المؤسسة التي عمل فيها بسبب المشاكل التي وقعت بينه وبين ربّ العمل بسبب أيّام العطل التي كان يطلبها ليكون قربي في المستشفى، كما أنه رفض أكثر من فرصة عمل في الخارج كي يبقى إلى جانبي…
كما أن أمي قالت له: تحرّر من وعدك لابنتي واذهب وأسّس عائلة مع فتاة أخرى لا تعاني من أي مرض، فقال لها: هل تتركينها؟ أجابت: لا، فهي ابنتي. وأردف قائلًا: أنا أيضًا لن أتركها فهي حبيبتي وخطيبتي وأنا اخترتها شريكة لي من بين جميع الفتيات”…
تساقط شعري… لكنه قال لي: ما زلت جميلة جدًّا
“في فترة العلاج الكيميائي، تساقط شعري، ولم أتقبّل وضع الشعر المستعار، فقال لي “بديع”: لا تكترثي للأمر، فأنا أراك جميلة جدًّا ولست مضطرة لتضعي شعرًا مستعارًا وعليك تقبّل نفسك كما أنتِ”، تخبر مرغريت.
“لقد شجّعني خطيبي وأعطاني طاقة إيجابية وحاولت أكثر من مرّة أن أدفعه ليتعرّف إلى غيري، ما سبّب له الانزعاج، وجعله يغضب منّي، فقال لي: أنت تؤذيني بتصرّفاتك. اتركيني أقف إلى جانبك بالطريقة التي تريحني، وليس التي تريحك، ولو كنت منزعجًا، لما كنت بقيت. أنا أريد أن أكمل حياتي معك”…
إن “بديع” هو ملاكي الحارس، هو الجبل الذي اتكأت عليه، فلولا وجوده في حياتي لما تابعت المسيرة”.
الربّ حاضر في كلّ لحظة من علاجي
وتتابع مرغريت:”منعنا الطبيب من الزواج بعد انتهاء العلاج ونصحنا بتأجيله سنتين تجنّبًا لأي تشوّهات قد تصيب الجنين ولا سيّما أن العلاج الكيميائي عبارة عن سمّ يقتل الخلايا الغريبة عن الجسم في هذه الحالات.
وأكد الطبيب أن لا شيء يمنع الإنجاب، فحدّدنا عرسنا بعد سنتين ونصف السنة من انتهاء العلاج…
طلبت شفاعة القديسة ريتا في فترة تلقّي العلاج، فاحتجت إلى 15 جلسة فقط من أصل عشرين جلسة علاج إشعاعي، وكانت الجلسة الأخيرة في اليوم الأخير من تساعية القديسة ريتا.
كان العلاج بالأشعّة أكثر صعوبة بالنسبة لي من العلاج الكيميائي الذي يستغرق وقتًا أطول، ويؤلم أكثر، لأنه عبارة عن دواء يدخل الجسم، فتشعر بأنك تحترق… في جلسة العلاج الإشعاعي، كنت مقيّدة كي تطال الأشعة كلّ الخلايا السرطانيّة… شعرت دائمًا بأن الربّ إلى جانبي، مدّني بالقوّة وساعدني لينتهي علاجي قبل انتهاء الجلسات المحدّدة.
كان الله حاضرًا في كلّ تفاصيل حياتي، في كلّ قطرة من الدواء التي كانت تدخل جسمي… لم أكن أستطيع تلاوة الصلوات الليتورجية، بل كنت أجري حوارًا مباشرًا مع الربّ، وفي إحدى المرّات، قلت له: إذا كنت ترى أن مكاني ليس على هذه الأرض، فخذني بسرعة… لا أريد أن أتعذّب هنا وأسبّب الألم لعائلتي…
وقلتُ ليسوع: أرجوك، لا تسمح بأن أكون ضعيفة، بل اجعلني قويّة مثلك… وكنت أقاوم كي لا أنقل وجعي إلى أسرتي”.
لم أخسر صوتي…
“ما أخافني في العلاج الإشعاعي أن الحنجرة كانت معرّضة للأشعة ما سيؤثر على صوتي سلبيًّا، وهذا الأمر كان يعني لي كثيرًا. فكنت أطلب من الربّ أن يحفظ صوتي من أي تأثير سلبي، والحمد لله أنني لم أخسر صوتي لكنه أصيب ببحّة قوية”، تخبر مرغريت.
“وكان الممرّضون في قسم العلاج بالأشعة يعرفون أنني أتمتّع بالصوت الجميل، فكانوا يطلبون منّي أن أرتّل، وكنت أشعر بأن صوتي جهوريّ… رنّمتُ لمار شربل وأحسستُ بأنه يشفع فيّ…
بعد انتهاء العلاج، شاركنا في مسيرة صلاة من حريصا إلى غدير ورفعنا الشكر لله وطلبنا أن تظلّلنا نعمة الربّ في المرحلة المقبلة”.
حلم يتحقّق ونِعَمٌ تفيض
وتقول مرغريت: “كان يوم زفافي أجمل أيّام حياتي… تحقّقت الأحلام التي خلتها سُرقت منّي بسبب المرض…
نعم! تحقّقت أحلامي في يوم واحد: لبست الأبيض، فرحت، وها أنا أتحضّر لتأسيس عائلة. استهللتُ يومي المنتظر في دير الكرمل حيث شاركت بالقداس الإلهي عند السابعة صباحًا، ومن ثمّ، أنهيت مكياجي وتسريحتي، ووصل العريس والتقطنا الصور…
وقبل انتقالي من حريصا إلى ميفوق، توجّهت لأودّع صديقاتي الراهبات، وقالت لي راهبة طاعنة في السنّ وغالية على قلبي: “افرحي اليوم بكلّ التفاصيل، بالأبيض والزينة، لكن يسوع سيفرح بك وسعادته لا تشبع السعادة الأرضيّة… سيفرح بك لأنك ستؤسّسين عائلة مسيحيّة صالحة”… فشعرت بأنها تحمّلني مسؤوليّة كبيرة جدًّا، وطلبت منها أن تصلّي على هذه النيّة”…
وتتابع مرغريت: “عندما دخلت الكنيسة، خفت ألا أكون على قدر المسؤوليّة التي عليّ تحمّلها، اختلطت مشاعري بين الفرح والقلق والخوف… كان زفافي رائعًا كما حلمت به…
بعد مرور سنة ونصف السنة، عندما عاد زوجي من السفر، إذ كان مضطرًا إلى التغيّب عن لبنان بسبب طبيعة عمله الجديد، زرنا دير عنايا وطلبنا من مار شربل بركته كي ننجب طفلًا، ووعدناه إذا كان صبيًّا، سنسمّيه شربل… ومن ثمّ، توجّهنا إلى مزار سيّدة ايليج، في 15 آب في عيد انتقال السيّدة العذراء، وشاركنا في القداس ورفعنا الصلوات من أجل أن يبارك الله عائلتنا وتكبر بنعمته.
بعد حوالي أسبوعين، أجريت اختبار الحمل وإذا بي… حبلى!
كم كانت فرحتي كبيرة: في داخلي روح وربّنا استجاب صلواتي! وكانت هذه النعمة بمثابة مكافأة لي بعد كلّ عذاباتي، وأجمل هدايا الله…
وأطلّت طفلتي “ايليج”… هي فرحة بيتي والشمعة التي أضأتها مع زوجي على مذبح الربّ…
بعد ستّة أشهر، حبلت على الرغم من أن وضعي الصحي لم يكن يسمح بحمل ثانٍ، وأطلّ “شربل”… السماء أرسلت لي نعمتين وأطلب من الله أن ينمو الطفلان بنعمته، وألا يختبرا الألم، وإذا ما تألما، أرجو أن يشعرا بحضور الخالق الدائم إلى جانبهما، وأن يعلما أن الله يسمح بأن نتألم كي يقوّينا ولأنّه يريد أن يوصل رسالة عبرنا لنا وللمحيطين بنا”.