إلسي كفوري خميس
كرّس حياته لخدمة الإنسان والمجتمع، فارتبط اسمه بأسمى معاني الخير والتضحية. لم يتوانَ عن تلبية نداء الواجب وتخطّيه أحيانًا، فكان «الخادم الأمين» من دون تفرقة أو تمييز بين طائفة أو مذهب أو دين. تدرّج في الهرميّة من صفة متطوّع حتى تسلّم أعلى مسؤوليّة إداريّة في جمعيّة إنسانيّة. عاصر في خلال مسيرته شتّى أنواع الحروب والنزاعات والاغتيالات، مرورًا بوباء كورونا، وصولًا إلى انفجار مرفأ بيروت، أحد أضخم الانفجارات في التاريخ الحديث.
ملتزمٌ إلى أبعد الحدود في ممارسة رسالته، جاهزٌ دومًا ومتأهّبٌ حتى نسي نفسه إلى أن قرع المرض الخبيث بابه، لكنّه لم يتمكّن منه بفضل الربّ وأدعية المحبّين من كل الطوائف.
إنّه الأمين العام للصليب الأحمر اللبناني جورج الكتاني الذي يشارك «قلم غار» مسيرته المُثرية في العمل التطوّعي الإنساني، وتجربته المَرَضِيّة التي أغنته روحيًّا.

التطوّع قرار ورسالة
اختار الكتاني ألا يلتزم بأحزاب وألا ينتمي إلى أيّ طرف، إنّما قرّر الدخول في الصليب الأحمر اللبناني-الجمعيّة الوطنيّة، العضو في الحركة الدوليّة للصليب الأحمر والهلال الأحمر.
في هذا الصدد، يشدّد الكتاني على أنّ العمل التطوّعي الإنساني هو نقطة أساسيّة بالنسبة إليه، فيقول: «هو خيار، ورسالة، ومهمّة، وخدمة ومساعدة. هو قرار ذاتي اتخذته بحياديّة واستقلاليّة وعدم تحيّز لمساعدة كل إنسان محتاج وتطبيق المبادئ السبعة للحركة الدوليّة للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وهي الإنسانيّة، وعدم التحيّز، والحياد، والاستقلال، والخدمة التطوّعيّة، والوحدة، والعالميّة.
يعتبر الكتاني أنّ دور الربّ يتجلّى في حياته من خلال إيمانه بالخدمة الإنسانيّة والمساعدة والتضحية في سبيل الآخرين. يؤكد: «أنا أؤمن بالواجب والالتزام، وهما بمثابة قدرة من الله وُهِبَت لي. وهذه الخدمة اللامتناهية تأتي عن طريق شعور ذاتي محبّ للعطاء، ينمّي فينا الحسّ الإنساني». ويضيف: «تلك الروحانيّة تسمح لنا بأن نتشارك ونتعاون كفريق عمل متضامن متكاتف وكعائلة واحدة لمساعدة كل محتاج والحفاظ على كرامته، أيًّا يكن دينه أو لونه، فنحن من واجبنا أن نلبّي النداء ونساعد ونزرع الأمل حيثما فُقِدَ».

اللجوء إلى الربّ
أمضى الكتاني أربعين عامًا في خدمته الإنسانيّة ولا يزال يواصل مهمّاته، فقد تطوّع منذ الرابعة عشرة، وواجه في خلال تلك الفترة الكثير من الصعوبات والتحدّيات. يخبر أنّ مواجهة الحرب والقصف في عمله التطوّعي دفعته للّجوء إلى الربّ وفرضت عليه إجراء مراجعة ذاتيّة.
ويشرح: «جعلتني هذه المواجهة أسأل نفسي: هل أُؤدّي رسالتي بمسؤوليّة؟ وهل أسير في الطريق الصحيح؟ وهل من ضرورة لأن أتعرّض لكل تلك الصعوبات، ولا سيمّا أنّ أحدًا لم يجبرني، بل أنا من قرّر الالتزام والسير وفق النظام واحترام القانون والإنسان».
3 أشهر في العناية الفائقة
عن وعكته الصحّيّة، يروي الكتاني لـ«قلم غار» أنّه أخطأ لمّا أهمل صحّته في سبيل خدمة الآخرين، فيقول: «روح التطوّع المجّانيّة رافقتني منذ الثمانينيات، في كل ساعة ودقيقة من حياتي وفي أنهُري ولياليَّ وأيّام العطل إلى درجة أنّني سلّمت نفسي بكلّيتها لهذا العمل ولم أتفرّغ لراحتي. هذه التضحية إلى ما وراء الواجب، وما رافقها من ضغط نفسي وعصبي، جعلتني أرزح تحت وطأة المرض الخبيث، لكنني عدت ووقفت على رجليَّ بقدرة الربّ، بفضل صلوات جميع الناس وأدعيتهم».
ويستطرد قائلًا: «كنت سأسافر إلى الخارج لأتعالج، لكن بما أنّ أموالي وجنى عمري محجوزة في المصرف، كحال جميع اللبنانيين، لم أتمكن من ذلك بعد رفض المصرف إعطائي ولو جزءًا للعلاج الصحّي. نتيجة لتأخُّر العلاج، بقيت في العناية الفائقة من شهرين إلى ثلاثة أشهر. لكن بفضل العناية الإلهيّة وتعب الطاقم الطبّي وصلاة عائلتي الصغيرة وعائلتي الكبيرة -الصليب الأحمر- ودعاء المجتمع اللبناني كلّه من مختلف الأديان، تغلّبت على المرض، وأنا حاليًّا أتعافى، وعدتُ أزاول مهمّاتي».
يؤكد الكتاني أن تجربة المرض دفعته إلى مراجعة حساباته وإعطاء المزيد من الوقت لنفسه والانتباه لصحّته وعائلته. كما دفعته أكثر نحو الصلاة. ويقول: «همّي الوحيد الإنسان ومساعدة الآخر بشتّى الوسائل على حساب صحّتي وعائلتي».

رسالة إلى الشباب اللبناني
تكمن رسالة الكتاني إلى الشباب اللبناني في التفكير بالإنسانيّة، بغضّ النظر عن وضع لبنان الاقتصادي والسياسي؛ التفكير بمستقبل البلد وبالإنسان فيه وبكيفيّة تأمين علاجه وشيخوخته، واحترام الأنظمة والقوانين.
ويشرح: «إذا تكاتفنا جميعنا والتزمنا بالقوانين والشفافية والمساءلة والمحاسبة ومكافحة الفساد، ستتعزّز الثقة التي تولّد بدورها القبول المجتمعي. أنا من واجبي أن أكون قدوة لأكثر من 12 ألف متطوّع من خلال احترام القوانين والمبادئ والالتزام بالحياد والاستقلاليّة وعدم التحيّز».
ويشجّع الكتاني الشباب اللبناني على التطوّع وخدمة الإنسان، قائلًا: «هناك طلبات كثيرة للتطوّع في الصليب الأحمر، لكن التحدّي يكمن في أن نحافظ على المتطوّع ونقدّم له الحوافز ونحميه لكي يستمرّ معنا.
وتوجّه إلى المتطوّع بالقول: «استمرّ، أنتَ الصورة، أنتَ الأساس، أنتَ من تلبّي النداء في أحلك الظروف؛ في العواصف والشدّة والليالي لإنقاذ حياة الآخرين بمسؤوليّة! أنتَ من تعزّز ثقة المجتمع بالصليب الأحمر، وبهذه الجمعيّة الوطنيّة غير المتحيّزة والتي تلبّي النداء بمهنيّة واحترافيّة وتمنح الطمأنينة والأمل لكل محتاج».

أمل جديد بالحياة
في الختام، يرفع الكتاني عبر «قلم غار» الشكر إلى الربّ على منحه العافية بدعم «جميع الطيّبين»، ولا سيّما عائلته الصغيرة لوجودها الدائم إلى جانبه، وعائلته الكبيرة أي الصليب الأحمر، «وهي عائلتي الأساسيّة التي ضحّيت معها أكثر».
ويحمده على «منحي أملًا جديدًا بالحياة والقدرة على الاستمرار في تأدية رسالتي بكل فرح والمحافظة على المصداقيّة ومحبّة الناس. الله، من خلال مرضي، بعث لي رسالة وهو يريد منّي أن أستمر في خدمتي الإنسانيّة، لكن في الوقت عينه أن أصلّي أكثر وأنتبه إلى صحّتي».