ماري حنّا
مارون واكيم، الشاب الطموح ذو الإرادة الصلبة، أبى أن تقف معاناته الصحيّة عائقًا أمامه، فواجهها، وتحدّى نفسه في سبيل الوصول إلى مبتغاه وتحقيق طموحاته وأهدافه.
يخبر مارون في لقاء خاص عبر “قلم غار” أن المشكلة بدأت منذ الولادة، إثر خطأ طبّي تعرّض له، ما أثّر سلبًا على نموّه السليم ومن ثمّ على نظره حين ظهرت مشكلة النظر في عمر السنتين.
رغم ذلك، دخل مارون المدرسة كسائر أبناء جيله، واجه صعوبات دراسيّة بسبب نظره، لكن المدرسة بإدارتها ومعلّميها وقفت إلى جانبه ودعمته. كذلك، كان إخوته في المنزل سندًا له لكي يتمكّن من متابعة تحصيله العلمي، وكانت نتائج امتحاناته المدرسيّة جيّدة جدًّا، لكن المشكلة الأكبر واجهته في خلال تقديم الامتحانات الرسميّة.
هكذا واجهت التنمّر…
يتحدّث مارون عن ألمه وكيفيّة مواجهته، قائلًا: “في المدرسة، لم أكن أشعر كثيرًا بالفوارق بيني وبين رفاقي، رغم بعض النظرات الغريبة وبعض حركات التنمّر التي واجهتها، لكنني اعتدت عليها مع الوقت.
أنا أهمل وجعي؛ لا أعبّر عنه إلا عندما تتفاقم الأمور وأضطر إلى دخول المستشفى حيث أمكث لفترات طويلة تتخطّى الأشهر.
وفي خلال مكوثي في المستشفى، استعنت بالقراءة لتمضية الوقت وتثقيف نفسي، ولا سيّما اللاهوت والفلسفة. وساندني عددٌ من الكهنة في التعمّق باللاهوت، ما ساعدني على تخطّي وضعي، ولم أحتج لمتابعة نفسيّة خاصّة، رغم أن لديّ أصدقاء متخصّصين في علم النفس كنت أستشيرهم في بعض الأمور.
وكان للعناية الإلهيّة دور كبير في حياتي عوّضت عليّ غياب المتابعة النفسيّة لأنني كنت منخرطًا في الحركات الرسوليّة والأخويّات على مختلف تشعّباتها، وناشطًا في الحياة الاجتماعيّة. كل ذلك عوّضني وجعلني أتخطّى المصاعب، وكان للحياة الرعويّة والمجالات التي فُتحت لي الدور الأبرز في تنمية قدرتي على تخطّي الصعاب. وهنا، أنتهز الفرصة لأطلب من كهنة الرعايا عدم تحجيم ذوي الاحتياجات الخاصّة، بل مساعدتهم على الانخراط في المجتمع والحركات الرسوليّة والنشاطات الرعويّة، فذلك يساعدهم كثيرًا على تنمية شخصيّتهم وقدراتهم، وأنا أتحدّث انطلاقًا من خبراتي الذاتيّة”.
الكنيسة ملجأ قلبي
ويضيف مارون: “كانت الكنيسة ملجئي؛ كنت أصل من المدرسة وأتوجّه مباشرة إلى الكنيسة للعمل في الرعيّة حتى وقت متأخّر من الليل. أنا أنتمي إلى رعيّة السيّدة في عمشيت التي ولدت فيها وترعرعت في أحضانها وكبرت في كنفها، رغم أنني في الأصل من بلدة عبرين البترونيّة حيث انضممت إلى فرق الكشّافة فيها…
شغلت منصب أمين سرّ في شبيبة أبرشيّة جبيل، ولدي علاقات وطيدة مع الشباب والشابات في الأبرشيّة، وكان لأهلي الدور الأكبر في حياتي، فوجودهم بقربي مدّني بالقوة والعزم، كذلك بعض الكهنة الذين أثّروا في حياتي.
أحمل شهادة في الرسم، وشاركت في إحدى المسابقات وحصدت المركز الأوّل في لبنان.
وكوني مرنّمًا في جوقة، حصلت على مبادرة خاصّة لأتعلّم الغناء الشرقي لمدّة خمس سنوات، وأنا اليوم أخدم في الأعراس والقربانات الأولى مجّانًا.
بسبب عملي في منظّمات اجتماعيّة وقراءتي المواضيع الطبيّة والنفسيّة، وجدت أن هناك حاجة إلى إعداد برامج توعويّة حول ذوي الاحتياجات الخاصّة والإرادة الصلبة، وأردت أن أقدّم برنامجًا في هذا المضمار. وهنا، أشكر الصديق الأخ رمزي حتّي الذي عرّفني على مسؤولي إذاعة صوت المحبّة الذين لقيت منهم كل الترحيب والدعم. وهكذا كانت انطلاقة برنامج “صوت صارخ” (إعدادي وتقديمي)، عنوانه العريض ذوي الاحتياجات الخاصّة والإرادة الصلبة، بهدف الإضاءة عليهم وعلى قدراتهم، ودمجهم في المجتمع للوصول إلى مناعة مجتمعيّة ترفعنا إلى مستوى احترام بعضنا البعض وتقبّل بعضنا الآخر”.
مطلبي المُلحّ
ويطرح مارون الأسئلة الآتية: “ما المانع أن أكون إعلاميًّا وأنا من ذوي الاحتياجات الخاصّة؟ أو أن يكون أحدنا مغنّيًا وهو على كرسيّ متحرّك، أو وزيرًا وهو من ذوي الاحتياجات الخاصّة؟”
ويتابع: “أطالب بإلحاح بدمج هذه الفئة من أبناء المجتمع في وظائف الدولة.
أحمل بعض العتب على عدد من الوسائل الإعلاميّة التي لا تهتمّ لهذه الفئة من الناس، ولا تخصّص لها برامج ولا تدعمها، بل تلهث وراء الفضائح والكلام البذيء الذي يصدر من هنا وهناك بحثًا عن عدد مرتفع من المشاهدات.
ثلاثون ألف مواطن في لبنان من ذوي الاحتياجات الخاصّة من فئة التوحّد، رقم لا يستهان به، لماذا لا نجد من يضيء على هذه المواضيع إلا قلّة قليلة؟ الإعلام هو رسالة، عليه أن يضيء على الإبداع والنجاح حتى ولو كان من ذوي الاحتياجات الخاصّة.
واجهت مشاكل عديدة في حياتي، تخطّيتها بفعل الإيمان والإرادة؛ فأنا أنهض صباحًا، أرسم إشارة الصليب على وجهي، وأطلب من الربّ أن يرافقني طيلة نهاري. وفي المساء أصلّي قبل النوم، وأقيّم يومي.
الروتين يقتل، علينا أن نضع هدفًا نصب أعيننا ونعمل لنصل إليه، وعندما نحقّقه، علينا أن نعمل لبلوغ هدف آخر”.
بين رغبتي ومشيئة الله
ويخبر مارون: “كنت أسعى لأكون كاهنًا لكنني لم أوفّق بسبب الحالة الصحيّة التي أعاني منها، لكنني اقتنعت فيما بعد بأن الربّ لا يريدني كاهنًا بل مرنّمًا على مذابحه، ممثّلًا، مقدّم برامج… يريدني علامة فارقة بين الشباب والصبايا.
أنا شخص هادئ، أقضي نهاري بالعزف على الأورغ، وأقرأ بعض الكتب، وأحضّر برنامجي، وأتابع العمل الرعوي… أجيد الطبخ وأتّكل على ذاتي، أعيش حياتي بشكل طبيعي جدًّا… العائق الوحيد في حياتي هو نظري”.
صلاتي علاقة حوار مع الله
ويرفع مارون الشكر إلى الله قائلًا: “أحمد الربّ على كل شيء…
نعم، لقد عاتبت الربّ كثيرًا، والعتب على قدر المحبّة، وعلينا أن نفصل بين العتب والكفر. علاقتي مع الربّ ليست خوفًا، بل علاقة حوار. أعيش الصلاة التي أرفعها؛ أنا أتكلّم مع الربّ وأخبره عن وجعي وأطلب منه أن يعطيني القوّة. واجهت الكثير من الصعاب والعراقيل.
العتاب يجب أن يكون عتاب صلاة وصراحة، وأطلب منه دائمًا أن يحميني من الأنا، ويبقى دائمًا قربي، فهو أعطاني الكثير، أنعم عليّ بأمور كثيرة لم يتمكّن غيري من الوصول إليها، وهذه نعمة حقًّا. الله لا يؤذي أحدًا، بل الشيطان هو من يدفعنا إلى الكفر بالله. علينا أن نتّكل على الربّ في كل شيء”.