د. جورج شبلي
لقد وقّع ميلاد المسيح مع الدّهشة عقدًا، ضربَ وَقعُه في أصقاع الدنيا، فأغنى مطوِّعًا قَدَرَ المستحيل في ارتباطه بالزمن، ومُعلِنًا قيام صداقة أبديّة مع الإنسان، مشروعُها لا يُنهيه حتى الوعدُ بالجلجلة، فالميلادُ لم يُرِدْهُ الله، أبدًا، حَدَثًا يُبكى في ظِلالِهِ قتيل.
المسيح لم يُمَشهِد الميلاد أعجوبةً لأناسٍ كانوا على جوعٍ وعَوَز، فتشَفّوا من زمانِهم بها. لقد شوّقَهم إلى بُعدٍ للحياة لم تَرْقَ إليه في تاريخها، فأزال ظلَّها المنكوبَ من دون ضجيج، وأصابها برَجَّةِ العظمة كي لا يُخجَلَ منها أبدًا. هو الربّ الذي ساوى، في لَبوسِهِ جسدًا، بينه وبين الإنسان الذي كان في ذُبول، ومنبوذًا نَبذَ النّواة، فأصبحَ بالتجلّي جزءًا من نفسِ الله، وعندَها، لمسَ جسدَه فأحسّ، وجسّ عِرقَهُ فنَبَض.
في الميلاد، تقدّمَت طلائعُ المحبّة طلائعَ السيوف، فتحوّلت صداقةُ الله للإنسان عشقًا، وراح الله يتنفّسُ عن قلب العاشق أضعافَ ما يتنفّسُ عن قلب الصديق. في الميلاد، أصلِ بداية الفعلِ الميتافيزيقي، يُطالعُنا الشوقُ المُلِحُّ على نَفَسِ الله للثورة، هذا الشوقُ الذي دفعَ بالآب إلى مغامرة إرسال ابنه إلى الأرض، وهي جثّةٌ ملعونةٌ مُتَكَلِّسَة، لينبشَ قبرَها، ويُخرجَها قامةً على ساقَين. فالميلاد، على هذا، هو أعنفُ نكبةٍ للخطيئة، نكّلَت بأنينِ المُحتضَرين بها، وأدخلَت الدنيا تحت وصاية المحبّة. إنّه الشُّروعُ في إنجاز ذلك الجسرِ التدريجيِّ بين عالَمِ السماءِ وعالَمِ البشر، أو بين الله اللاّمتناهي غيرِ الخاضعِ للوقت، وبين الإنسانِ المحدود.
لقد مسَّ الميلادُ، بشكلٍ جذريٍّ، معنى الحقيقة، وسَفَّهَ تَصَوُّرَ السعادة الحسيّة وكأنّها خيرٌ أسمى، وثبّتَ سقوطَ الآلهة الغَيبيّين أمامَ المبدأِ الأوّلِ الذي ينبثقُ منه وجودُ العالم، فتعرّضَ طقسُ واحديّةِ الإلهِ لمُضايقاتٍ مُمَنهَجَةٍ قادَتها الذهنيّةُ الهَرِمَةُ التي جعلَت كلَّ إلهٍ مُختَصًّا بفِعل، وأصلًا لنوعٍ من الموجودات. لقد فرضَ الميلاد انقلابًا في مفهوم الحقيقةِ كغايةٍ أخلاقيّةٍ ومعرفيّة، فبعدما كانتِ الحقيقةُ وَهْمًا ميثولوجيًّا ذا طابعٍ مُتَعالٍ، لجأ الله إلى وسيطٍ يكشفُ الحُجُبَ عنها، ويُخرجُها إلى النور، وبهذا بدأ عهدٌ جديد، عهدُ النعمة.
لقد قرأَ مجتمعُ ما قبل الميلاد، الميلادَ بشكلٍ دراميٍّ تراجُعيّ، لأنه قطعَ الطريق على الصّيغة الأفلاطونيةِ لشَعبٍ مُختار، أو لأنه جعل أَحاديةَ القُطبِ الموعودةَ تتنازلُ لمصلحةِ المحبّة الكُليّة. وقد هدم الميلاد الزّعمَ الإنتهازيَّ للذين شَرَحوه، قبلَ أن يَحصُل، على أنه سيكون الجهازَ الإيديولوجيَّ الإقطاعيَّ الذي يصونُ طبقةً معيّنةً على حسابِ البشريّة جَمعاء.
وفي المقابل، مارس الميلاد لاهوتَ تحرير الناس من تَناثُرِ أجزائِهم في وَحْلِ ذِهنيّاتِ التّحريف، ومن إرغامِهم على الامتثالِ إلى القهرِ، والدموع، بذريعةٍ سقطَتْ من ضفافِ التاريخ. وهذا هو التكوينُ الإستقلاليُّ الثوريُّ للميلادِ ذي الخصوصيّةِ الخارجة عن إطارِ الزمان والمكان، أو ما يُسمّى بالمبادئِ المَشاعيّةِ الكونيّةِ ليسوعَ المسيح.
إنّ قراءةً لموروثات الميلاد تُظهرُ أنه الطريقُ لِوَعيٍ رَعَويّ، فبعدما كانت صورة الإله الوحيد تتّجهُ إلى التجريد أكثرَ فأكثر، وتَميلُ إلى العُزلةِ والنَّأي، جاء الميلاد ليُزيلَ اللّبسَ بين المجرّدِ الكُلّيِّ والأشياء، لتقعَ صورةُ الإلهِ في نطاقِ المَلموسيّة، والحركة، والتّجسيم. ومع ذلك، دعمَ الميلاد صورة الإله غيرِ الوثنيّ، وغيرِ المخيف، صورةَ الإله الذي يُبَرِّئُ ولا يُجَرِّم، بالرَّغم من العداوة التي نَسَجَها الإنسان مع ربّه، ومع نفسه، ولِقُرون. فالميلادُ هو كلامُ قلبِ الله إلى قلبِ العالم، أو هو العِلمُ الكلّيُّ الذي عارضَ الأساطيرَ المُفسِّرةَ لأَصلِ العالم، والذي أَنْبَتَ في الإنسان النّظرَ بالمسألةِ الكبرى للكون، أي كَشْفِ الحقيقةِ لذاتِها، وبهذا، وحدَهُ، صار الإنسانُ جديدًا.
لم يكن على العالَمِ أن ينتظرَ من الله دليلَ إعجاز، فاللهُ غيرُ مُلزَمٍ بذلك، وكان بإمكانِهِ أن يُضَلِّلَ الناسَ بخِداعٍ بَصَرِيٍّ يَبني داخلَ رؤوسِهم عالَمًا من الوهمِ، يَظنّونه حقيقة، فلا يُكلِّفُ ضميرَه حسرةَ التضحيةِ بابنِه الوحيد. لكنّ الميلادَ هو الوقتُ الوحيدُ الذي رُفِعَ فيه كأسُ الجسدِ من دونِ جسد، أو هو الآيةُ الواحدة التي اختلَفَتْ فيها أَسْلَبَةُ اللهِ للآيات، فبدا الأقوى والأَظهر، ربّما، لأنّه أرادَ أن يُنبِئَ بعلامتِه.
الميلادُ ليس عقدةً قَصَصِيَّةً بحاجةٍ إلى تَراجِم، وليس عِظةً مُنَمَّقَةً بالوصفِ لِتُبْهِر، إنّه قَولُ اللهِ لنا: “السلامُ عليكم”… لكنَّ مَنْ أجابَ اللهَ، في الناسِ، قليل.