غيتا مارون
بُترت ساقها وخسرت أختها في يوم واحد، لكنها لم تستسلم للجراح الجسديّة والنفسيّة، بل جاهدت وانتصرت… إنّها غريس أنطون الحداد، أمّ إيليو، تخبر “قلم غار” عن مسيرة زاخرة بالتسليم الكلّي لمشيئة الربّ.
هكذا تبدّل مسار حياتي…
“منذ نعومة أظفاري، ترعرعت في عائلة مسيحيّة مؤمنة؛ كنت أصلّي على الدوام، وأحلم بمستقبل زاهر إلى أن أطلّ ذلك اليوم الأسود الذي بدّل مسار حياتي: كانت الحرب الأهليّة مندلعة، والقذائف تنهمر من كل حدب وصوب… لم نسلم في تلك المرّة؛ سقطت قذيفة أمام منزلنا، ما أدّى إلى إصابة ثلاثة أفراد من عائلتي: أمّي، وأختي، وأنا”، تخبر غريس.
“يا ربّ!” هذا ما قلته بعدما أصبت، ووقعت أرضًا، ورأيت ساقي المبتورة أمامي… كم كانت موجعة تلك اللحظات… علمت في قرارة نفسي أن حياتي لن تكون كما كانت عليه في السابق، وربّما سأعجز عن المشي من جديد”…
رحيل أختي آلمني أشدّ الألم
وتتابع غريس بصوت تخنقه العبرات: “بعد حوالي ثلاثة أيّام، تأكدت أنني خسرت ساقي، وكم آلمني هذا الواقع المرير الذي فُرض عليّ… كنت أسأل عن حالة أختي على الدوام، لكنهم أخفوا عنّي الحقيقة… في عمق ذاتي، شعرت بأن أختي انتقلت إلى الحياة الثانية، من دون أن أخبر العائلة بما أشعر به… عرفت أنني فقدت ساقي، لكن فقدان أختي الغالية كان خسارتي الكبرى؛ لا يمكنني تعويض غيابها، بينما كنت قادرة على تعويض خسارة أي عضو من أعضائي.
رفعت الصلاة دائمًا من أجل راحة نفسها، لتكون قد انتقلت إلى جوار الربّ، وعاينت وجهه القدّوس”…
قال لي: أنا الربّ إلهك لن أتركك!
وتقول غريس: “ساندني الله على الدوام، لأنني كنت أشعر بالقوّة الدائمة والنشاط، وتعلّمت تقبّل الواقع الأليم وتابعت العلاج… وقف أهلي إلى جانبي، ولم يتركني أقاربي وأصدقائي، ولا سيّما عمّتي التي لازمت المستشفى كي تهتمّ بي خلال فترة علاجي لمدّة شهرين.
شاءت العناية الإلهيّة أن تأتي بعثة أجنبيّة إلى لبنان، وتأخذ معها بعض مصابي الحرب لمتابعة تلقّي العلاج في الخارج، وكنت من المصابين الذين اختارتهم هذه البعثة.
تلقّيت العلاج على مدى سنة، وشاركت في رحلة حجّ إلى لورد، كأن الربّ أرسل لي الإشارات ليقول: أنا الربّ إلهك لن أتركك، أنت ابنتي الحبيبة!”
“لتكن مشيئتك يا ربّ!”
وتخبر غريس: “كنت أردّد على الدوام: “لتكن مشيئتك يا ربّ!” وعندما كنت أتألم من بتر ساقي، أقول: “مع آلامك يا يسوع!” لقد تعذّب يسوع كثيرًا من أجلنا، ومهما كان ألمي شديدًا، فلن يعادل أوجاعه…
قرّبني اختباري في لورد من الربّ، وشعرت بأنه اختارني؛ تشاركنا أسبوعًا من الصلوات والقداديس والاعترافات مع الجماعة المصلّية، وشعرت بأنني أعيش حياة قريبة من أمّنا مريم العذراء وابنها يسوع.
طلب منا الكاهن المرشد، خلال رحلة الحجّ، كتابة أسمائنا وأمنياتنا على حجر؛ كتبت اسمي وأمنيتي الآتية: القدرة على الوقوف والمشي، ووضع طرف اصطناعي، كي لا أفقد الأمل لأن الإيمان بالله والرجاء يبعدان اليأس عن المؤمن، ورجوت الله أن أحافظ على قوّة إيماني كي أستطيع إكمال حياتي، والوقوف على رجليّ”.
حضور الربّ في حياتي مدّني بالقوّة
وتضيف غريس: “بعد عودتي من فرنسا، كان حضور الربّ قويًّا جدًا في حياتي، لأنني استعدت قوّتي، ووضعت طرفًا اصطناعيًّا، فلم أشعر بأنني فقدت ساقي، وعُدْتُ منتصرة: الربّ حاضر معي، وشرّع لي الأبواب!
أكملت الثانوية العامة، لكنني لم أستطع متابعة دراستي الجامعيّة… بدأت العمل في شركة البحوث العربيّة، وبذلتُ قصارى جهدي لأقوم بمهماتي على أكمل وجه، ولم يشعر زملائي في العمل بأنني أعاني من أي مشكلة قد تعوّقني عن القيام بعملي.
في تلك الفترة، وضعت نصب عينيّ هدفًا أساسيًّا تمثّل في تطوير مهاراتي، والتقدّم في عملي…
بعد مرور سنتين من العمل المضني والجهود المستمرّة، حصلت على الترقية، وبتّ مسؤولة عن قسم مراقبة إعلانات البرامج وإدخال البيانات في الشركة التي عملت فيها على مدى 24 عامًا.
في تلك المرحلة، وقف الأهل والأصدقاء وزملاء العمل إلى جانبي، ولم يتركوني فريسة اليأس بل كانوا يقولون لي على الدوام: “الله إلى جانبك ويرعاكِ، وأنت قويّة لأن وجوده في حياتك يمدّك بالقوّة”.
ها أنا ذا أطلب الآن نعمة الأمومة
وتقول غريس: “رغبت في الزواج وتأسيس عائلة، لكنني اعتبرت أن وضعي سيشكّل عائقًا أمام تحقيق حلمي، وظننت أنني لن أجد الشريك المناسب الذي سيتقبّل حالتي…
تعرّفت إلى فرنسوا، زوجي الحالي، الذي أعرب عن رغبته في تأسيس عائلة معي، وقال لي: أعرف ماهيّة وضعك، لكنني أبحث عن إنسانة عاقلة أحبّها وتبادلني الحبّ، وقويّة تتغلّب على صعوبات الحياة، وتشاركني في تحمّل مشاكل الحياة الزوجيّة المشتركة…
نجحت علاقتنا، وتكلّلت بالزواج، ولم يشكّل وضعي أي عائق في حياتنا الزوجيّة، وعشنا حياة سعيدة لم يكن ينقصها إلا إنجاب ولد…
وانطلقت رحلة جديدة من العذاب، لكنني كنت أردّد على الدوام: “لتكن مشيئتك يا ربّ! أنت تقرّر مسارنا واتجاهنا!”
خضعت لعلاجات عديدة باءت بالفشل… وبعد 20 محاولة لم تأتِ بالنتيجة المرجوّة، قلت للربّ: هذه هي المرّة الأخيرة التي سأتحمّل فيها العلاج، فعندما كانت النتيجة تأتي سلبيّة، كان الوجع يتخطّى الجسد إلى الروح…
خاطبت الربّ قائلة: “أنت تعطيني نعمة القوّة والصبر، وها أنا ذا أطلب الآن نعمة الأمومة”… وطلبت شفاعة القديسة ريتا، وارتديت ثوبها، وسلّمتُ أمري لله!”
في ليلة عيد القديسة ريتا، عرفت الخبر السار!
وتخبر غريس: “في ليلة عيد القديسة ريتا، عرفت الخبر السار، وكانت فرحتي لا توصف: “أنا حامل! لتكن مشيئة الربّ!”
بعد 10 سنوات من الانتظار والشوق إلى عناق ولد تحمله أحشائي، استجاب الربّ لتضرّعاتي!
شكرت الله من كل قلبي، ولن أوفيه حقّه بالشكر على عطاياه الغزيرة!
بعد 9 أشهر، أطلّ إيليو الحبيب الذي ملأ حياتنا، وأنارها بحضوره، فلمسنا حبّ الربّ وكرمه معنا…
إيليو هو حياتي! مهما قلت، لن أجد الكلمة المناسبة التي تعبّر عن أهميّة وجوده في حياتي! كلمة “ماما” التي انتظرتها لسنوات طويلة أهداني إيّاها في عيد الأمّ، عندما كان يبلغ من العمر سنة وشهرين! يا له من شعور لا يوصف! هو قلبي وروحي وعيناي وكل كياني!”
سمعت صوته يقول لي: “سأرافقك على الدوام!”
وتؤكد غريس أن الربّ كان دائم الحضور إلى جانبها في كل مراحل حياتها، ولا سيّما عندما تمرّ في أوقات صعبة، وتطلب منه أن ينير حياتها ودربها، كي تتخطّى الصعوبات.
وترفع غريس الشكر للربّ قائلة: “أحمد الله على كل عطاياه في حياتي، وما اختبرته من أمور يسيرة وعسيرة… أشكره على زوجي وابني وأهلي وأصدقائي وكل شخص مساند وصديق وضعه الله في حياتي، وأطلب معونته على الدوام، وأردّد هذه العبارة التي رافقتني منذ طفولتي: لتكن مشيئة الربّ!
مبارك إلهنا! هو رفيقي الدائم! كأنه يقول لي في عمق ذاتي: أنا إلى جانبك دائمًا! لا تستسلمي لليأس! كوني قويّة! سأرافقك إلى الأبد!”