د. غسان حنا ونيكول طعمة
في كل عام، يحمل زمن الميلاد معه نفحات من الفرح والسلام. تمتزج أضواء الزينة ببهجة الأطفال، وتتسابق الأيدي للعطاء. لكن خلف هذه المظاهر الاحتفاليّة، يكمن جوهر الميلاد الحقيقي: المحبّة. الميلاد ليس ذكرى حدث تاريخي فحسب، بل هو دعوة متجدّدة لعيش المحبّة في أسمى معانيها، متخطّية القشور لتبلغ القلوب. في زمن الميلاد، نتذكّر أنّ المحبّة ليست فعلًا موسميًّا، إنّما هي جوهر الحياة الإنسانيّة؛ تلك القوّة التي تولّد الأفكار النيّرة وتجمع النيّات الحسنة، وتخلق عالمًا أكثر إشراقًا وسلامًا.
المحبّة اللامحدودة
كيف جسّد المسيح محبّة الله للبشريّة من خلال التجسّد؟
الميلاد هو التعبير الأسمى لتجسُّد الله بصورة إنسان كي يكون قريبًا منه. كشف ميلاد يسوع عن رحمة الله اللامحدودة؛ تلك الرحمة النازلة من السماء لتلمس الأرض وتحتضن الجميع من دون استثناء. وُلِدَ المسيح في مذود فقير، ما يدلّ على أنّ الله لا يختار القوّة والمجد الأرضي ليُظهر محبّته، بل التواضع والبساطة والقرب الحقيقي من الإنسان بضعفه وآلامه.
إنّ تجسُّد المسيح رسالة واضحة بأنّ المحبّة ليست كلمات فارغة بل فعل حياة. الله لم يبقَ بعيدًا عن معاناة البشر، فهو نزل إلى عالمهم، عاش بينهم، وشاركهم واقعهم، مظهرًا لهم أنّ المحبّة الحقيقيّة تكون في التقارب والتضحية والعطاء. الميلاد يعني أنّ الله أحبّ الإنسان إلى درجة أنّه صار مثله ليعيده إلى ذاته. وهذا التدبير لم يكن مشروطًا، بل مجانيًّا وعميقًا، وهدفه الوحيد خلاص الإنسان وإعلاء كرامته.
الميلاد، هذا الحدث العظيم، يُذكّرنا بأنّ المحبّة الحقيقيّة هي التي تبذل ذاتها بحرّية وسخاء، ولا تنتظر مقابلًا. الميلاد هو دعوة موجّهة إلى الإنسان من أجل عيش المحبّة وجعلها نهجًا لحياته، مقتديًا بالمسيح وسائرًا على خطاه.
يحمل التجسّد رسالة للجميع مفادها أنّ الله قريب، يشاركنا حياتنا، ويعلّمنا أنّ المحبّة هي أعظم قوّة في الكون. يدعونا الميلاد إلى أن نعيش المحبّة في أبسط صورها، وأن نقدّم للآخرين ما قدّم الله لنا، فنتبنّى قِيَم العطاء والتواضع والسلام التي ظهرت في مذود بيت لحم، ونفتح فصلًا جديدًا في قصّة الله مع البشريّة، عنوانه المحبّة المتجسّدة في المسيح.
الميلاد… روح وحياة
كيف نحيا المحبّة في العلاقات الشخصيّة؟
عيش المحبّة في العلاقات الشخصيّة يتطلّب فهمًا عميقًا لمعناها كفعل يومي يتجاوز الكلمات والمشاعر العابرة. المحبّة تتجسّد في الصبر والإصغاء والتفاني في فهم الآخر واحترام احتياجاته. إنّها تتطلّب القدرة على التنازل عن الأنانية، إفساحًا في المجال لبناء علاقة من التفاهم المتبادل. المحبّة في العلاقات الشخصيّة تعني قبول الآخر كما هو، بغضّ النظر عن عيوبه أو اختلافاته، والعمل على دعمه في تحقيق ذاته والنمو بروح الألفة والتآزر. المحبّة تُعاش من خلال الأفعال الصغيرة التي تعبّر عن الاهتمام والاحترام، مثل الكلمة الطيّبة، المساعدة في وقت الحاجة، أو مجرّد الوجود إلى جانب من نحبّهم في أوقاتهم الصعبة.
في موسم الميلاد، يشكّل العطاء والتضحية جزءًا لا يتجزأ من المحبّة الحقيقيّة. الميلاد يذكّرنا بأنّ الله قد أعطى ذاته للبشريّة من خلال تجسُّد المسيح، وهو أعظم مثال على العطاء من دون حساب. العطاء في هذا الموسم لا يقتصر على الهدايا المادّية، بل يتعدّاه إلى بذل الوقت ومشاركة العاطفة ورعاية الآخرين، بخاصة أولئك الذين يعانون من الفقر والعزلة. فتصبح التضحية جزءًا من هذا العطاء حيث نتخلّى عن راحتنا أو مواردنا من أجل إدخال الفرح إلى حياة الآخرين. الميلاد يدعونا إلى أن نتشبّه بروح المسيح الذي لم يبخل بشيء، بل قدّم نفسه بالكامل تعبيرًا عن المحبّة لنعيش هذه الروح مع المحيطين بنا، فنجعل موسم الميلاد فرصة لنشر الفرح والسلام في قلوب الآخرين، وتعبق المحبّة في العالم أجمع.