د. غسان حنا ونيكول طعمة
في تلك الليلة المظلمة التي تختزن التاريخ ومعناه، أشرق نورٌ عظيم لجميع شعوب الأرض. فرحٌ لكل الحضارات والثقافات، خلاصٌ للجنس البشري، بل للخليقة كلها. لقد تجسّد الفرح في الطفل يسوع الكلمة الأزلي الذي صار جسدًا وسكب فيه كل لاهوته ليؤلّه الإنسان ويجدّد وجه الأرض.
فرح الميلاد وبشرى الخلاص
الفرح الروحي الذي يملأ قلوبنا عند الاحتفال بميلاد المسيح ينبع من عمق الإيمان، فهو ليس مجرّد شعور موقّت ناتج عن مظاهر الاحتفال، بل هو سرور عميق ومتجذّر يعكس معنى الخلاص والرجاء. ميلاد المسيح هو إعلان حبّ الله غير المشروط للبشريّة وتجسُّده في شخص يسوع المسيح ليأخذ طبيعتنا البشريّة ويعيدنا إلى الشركة معه. هذا الفرح يتجاوز الظروف المادّية أو الصعوبات الحياتيّة لأنّه يستمد قوّته من الخلاص الذي أتى به المسيح ومن الرسالة العميقة التي يحملها الميلاد عن قيمة الإنسان في نظر الله.
الفرح في الميلاد هو أيضًا تعبير عن إدراك عظمة السرّ الإلهي، حيث اختار الله أن يأتي إلى العالم في صورة طفل ضعيف ومتواضع ليؤكد أهمّية التواضع والمحبّة كقيمتين مركزيّتين في خلاص البشريّة. هذا الفرح لا يمكن أن ينفصل عن السلام الداخلي الذي يمنحه الله للقلوب المؤمنة، والمتجلّي في الميلاد كدعوة إلى المصالحة مع الله ومع الآخرين.
الميلاد يذكّرنا أيضًا بأنّ الله معنا دائمًا، وأنّ نوره يبدّد ظلام العالم. هذا اليقين يمنحنا فرحًا عميقًا لا يتأثر بتقلّبات الحياة، بل يجعلنا شهودًا للرجاء والمحبّة. الفرح الروحي في الميلاد هو تجلّي رحمة الله ومحبّته التي تشفي كآبة الإنسان وتمسح دموعه، تعزّيه وتقوّيه في كل تجاربه.
روح الفرح… فرح الروح
الفرق بين الفرح الداخلي والاحتفالات الخارجيّة يكمن في مصدر الفرح وأثره على الإنسان. الفرح الداخلي ينبع من أعماق النفس، وهو مرتبط بعلاقة الإنسان بالله وبالسلام الذي يملأ القلب المفعم الإيمان والمحبّة والرجاء. هذا الفرح لا يعتمد على الظروف الخارجيّة أو المظاهر، إنما هو حالة دائمة ومستقرّة تعكس حالة الروح التي تعيش في انسجام مع إرادة الله.
أما الاحتفالات الخارجيّة، فهي تعبّر غالبًا عن الفرح الظاهري الذي يتجلّى في المظاهر والطقوس والأنشطة الاجتماعيّة. على الرغم من أهمّية هذه الاحتفالات في تعزيز الروابط الاجتماعيّة وإظهار البهجة إلا أنّها تبقى سطحيّة إذا لم تكن متجذّرة في الفرح الداخلي الحقيقي. المظاهر الخارجيّة تكون موقّتة وزائلة وتفقد قيمتها إذا لم تعبّر عن جوهر روحي صادق.
التركيز على الجوهر الروحي هو ما يمنح الاحتفالات معناها الحقيقي ويدعو الإنسان إلى التأمّل في القيم الأبديّة والمبادئ التي تعطي الحياة غايتها الحقيقيّة، مثل المحبّة والتواضع والسلام. من دون هذا العمق الروحي، تصبح الاحتفالات مجرّد طقوس فارغة تفتقر إلى الهدف الأسمى.
الجوهر الروحي يساعد الإنسان على تجاوز المظاهر السطحيّة والعيش بفرح داخلي أصيل ينبع من معرفة الله والاتحاد به. هذا الفرح الداخلي يظل ثابتًا حتى في أوقات الشدّة لأنّه يستند إلى الحقائق الروحيّة الأبديّة وليس إلى الظروف الموقّتة. لذلك، إنّ التركيز على الجوهر الروحي يجعل الاحتفالات الخارجيّة أكثر عمقًا ويحوّلها إلى فرصة حقيقيّة لتجديد الروح والتقرّب من الله.
فرح العطاء ونور المحبّة
أن تكون مصدر فرح للآخرين يعني أن تسعى إلى نشر السعادة والطمأنينة في قلوبهم من خلال المحبّة الصادقة والمشاركة الفعّالة في حياتهم. الفرح الحقيقي ينبع من قلب متواضع يقدّر قيمة الآخر ويبحث عن سعادته بلا مصلحة. يمكن أن يتحقّق ذلك من خلال الإصغاء للآخرين بعمق واهتمام، فالإصغاء يمنحهم شعورًا بأنّهم مقدّرون.
المشاركة العمليّة في حياة الآخرين تلعب دورًا كبيرًا في نشر الفرح، كأن تمدّ يد العون لمن يحتاج المساعدة، سواء مادّيًّا أم معنويًّا، أم أن تكون داعمًا لهم في أوقاتهم الصعبة. المحبّة تظهر في الأعمال الصغيرة التي تعكس الاهتمام، مثل كلمات التشجيع أو المساندة أو حتى الابتسامة الصادقة التي قد تخفّف من عبء يومهم.
العطاء بفرح هو مفتاح لإشاعة السعادة. عندما نقدّم للآخرين ما يحتاجونه، سواء أكان وقتًا أم جهدًا أم حتى كلمات طيّبة، فإن ذلك ينشر شعورًا عميقًا بالرضا والسعادة. الفرح المتبادل هو ثمرة طبيعيّة لهذه العلاقة القائمة على العطاء والمحبّة.
التسامح والمغفرة يعزّزان الفرح. عندما نتجاوز الأخطاء ونفتح صفحة جديدة مع الآخرين، نخلق أجواءً من السلام والقبول التي تملأ القلوب فرحًا. الفرح هو رسالة تحملها أفعالنا وأقوالنا للآخرين، عاكسًا نور المحبّة الساكنة فينا.