إلسي كفوري خميس
هو خير خلف لخير سلف. نجل عرّاب الأغنية اللبنانيّة ونبعها الصافي الذي اقترن اسمه بوطنه، فغنّى له «لبنان يا قطعة سما».
أحد أبناء العملاق وديع الصافي ووريثه الفنّي. عاش في كنفه ملحّنًا وكاتبًا، قبل أن يقرّر خوض غمار الفنّ مطربًا، ساعيًا إلى تقديم أعمال من عبق الراحل الكبير.
في صوته حنين إلى الزمن الجميل. لشدّة قربه من صوت والده، يسترجع معه كثيرون من عشاق الطرب ومتذوّقيه ذكريات ولحظات تاريخيّة سطّرها العظيم وديع الصافي على المسارح بأغانيه الأيقونيّة الخالدة.
سائر على خطاه، رسم لنفسه خطًا ملتزمًا بنهج الراحل الكبير وتعاليمه ومسيرته النابضة بالأصالة والجمال، وهو من رافقه في حفلاته في مرحلة المراهقة، عازفًا على آلة الكمان قبل أن يتولّى بنفسه قيادة الفرقة الموسيقيّة.
هو أيضًا مدرّس موسيقي يعلّم أصول الغناء العربي والعزف على العود.
إنّه الفنّان جورج وديع الصافي الذي يخبر «قلم غار» عن حضور الربّ في حياته، وعن مسيرة والده الإيمانيّة والفنّية وأثره الأبدي.
الخلطة الكبيرة
يصف جورج الصافي تجلّي الربّ في حياته بأنّه «خلطة كبيرة». متأثرًا جدًّا بـ«الأب الطيّب الحنون»، يسترجع ذكريات مرافقته في حفلاته عازفًا على الكمان: «كنت أراقب كيفيّة تأديته الأغنية أو إنشاده الترنيمة بإحساس عميق، ولمست مدى تأثّر الحضور الشديد إلى درجة البكاء». يضيف والغصّة تصاحب كلماته: «حاليًّا، عندما أرتّل أو أغنّي من أرشيفه، أتذكّر حالته وأشعر بطاقته تسير في دمي وكياني، فأتأثر وتنهمر دموعي».
يؤكد الصافي أنّ «من لا يتحلّى بالإيمان، لا رادع له ولا حصانة. نتوكّل على الله في كل شيء. الربّ حاضر معنا ويرافقنا دومًا. ونطلب شفاعة قديسيه، فهم سفراؤه في مواجهة المحن».
حامل شعلة الغناء للوطن
علاقة الفنّان الكبير وديع الصافي بالله ينقلها إلينا ابنه بحبٍّ وأمانة، فيؤكد أنّ صلة والده الراحل بالربّ تجلّت منذ الطفولة. ويخبر عن نشأته في جوٍّ بيتيٍّ مؤمن: «كان أبي يخدم القداس ويرتّل وفق الطقسَيْن الماروني والبيزنطي. في البيت، تنمو بذور الدين وحبّ الوطن. فالعائلة أساس كل شيء». ويشدّد على أنّ علاقته بالربّ لم تتغيّر، ولم تتبدّل أبدًا طوال مسيرته وحياته.
يضيف: «عندما كبر وديع الصافي واكتُشفت موهبته الخارقة، لم يغيّر طريقه أو أسلوبه لا بل سار في دروب جديدة أخرى، فغنّى للوطن باللهجة اللبنانيّة إذ كان الزجل وحده حينها سيّد الساحة. عندما بدأ الغناء للبنان، لم يتقبّل كثيرون ذلك، فوصفوه آنذاك بـ “مطرب القرميد” أو “الضيعة”. على الرغم من ذلك، لم يحد قيد أنملة عن خطه وقناعاته. طوّع صوته لوطنه ودينه كي يهب الأجمل للفنّ. لم يكن مستهترًا بما قدّمه، ولم يتساهل يومًا لأجل الربح والتجارة. هو رجل فاتح وقائد بكل ما تحمله الكلمتان من معنى».
ويشير الصافي إلى «الإنتاج السماوي» الذي قدّمه العملاق الكبير طوال فترة الثمانينيّات والتسعينيّات من أغنيات دينيّة، قائلًا: «نحمد الله لأنّنا كنا إلى جانب الوالد في هذا الإنتاج الضخم».
حياة كرم وقداسة
يصف الابن حياة الأب بأنّها كانت بمثابة حياة القديسين: «عمل كثيرًا وتعب ونال مقابل ذلك أرباحًا مادّية لكنه لم يبقَ غنيًّا لأنّه كان كريمًا جدًّا وفاعل خير. وزّع جنى عمره على أولاده».
ويتحدّث عن صعوبة الاستمرار من الناحية المادّية: «في السنوات الأخيرة قبل رحيله، واجهنا بعض الصعوبات المادّية حين كان أبي ما زال القائد وكنا تحت جناحيه، واضطررنا إلى الوقوف بجانبه لأنّه رغب في مواصلة مسيرته الفنّية. وهذا الأمر أثّر على صحّته».
استمراريّة رغم الرحيل
يقدّر جورج الصافي اللفتات التكريميّة التي لمّا تزل مستمرّة حتى بعد رحيل والده، لكنه يحمل عتبًا على الدولة.
لدى سؤالنا إيّاه: «هل أنصف الوطن الراحل الكبير؟»، يجيب: «الدولة لا تقدّم شيئًا سوى أوسمة لا تُصْرَف في أيّ زمان أو مكان». ويضيف: «أزمة الفنّان في لبنان كبيرة جدًّا، وهو ملزم بالعمل حتى آخر يوم من حياته لكي يؤمّن لقمة العيش لأنّ الحكومات المتعاقبة لم تسمح للنقابات الفنّية بالسير بنظام جدّي لضمان شيخوخة الفنّان، كما في مصر أو سوريا».
أمّا من ناحية التكريم المعنوي، فيؤكد: «لم يُكَرَّم أحد بقدره، قبل وفاته وبعد رحيله. وما زلنا إلى اليوم نحضر حفلات تكريميّة للوالد. هذه الاستمراريّة هي ثمرة محبّة الناس ومدى تأثير الوالد الإيجابي. كل شخص اعتبره بمثابة فرد من عائلته لأنّه تكلّم بلغة الشعب».
هل يطمئن جورج الصافي إلى المحافظة على إرث الوالد للأجيال المقبلة؟ ردًّا على سؤالنا، يحمّل الإذاعات المسؤوليّة في تعريف الجيل الصاعد على هذا التاريخ الفنّي وعلى تهذيب أذنه وإبعادها قدر المستطاع عن النشاز الطاغي، معتبرًا أنّ المسؤوليّة تقع على عاتقها في الحفاظ على الفنّ الرصين. ويعتب بشكل كبير على الإذاعات التي «تروّج للأغاني المدفوعة وتنسى أو تتناسى الأغاني الأصيلة التي يجب أن تبقى حاضرة على أثيرها، وألا تكون محصورة فقط بالفترة الصباحيّة».
ويشير إلى أنّ بعض الجامعات قدّم «عملًا مشرّفًا» في هذا الإطار، لافتًا إلى أنّ جامعة الروح القدس-الكسليك عملت على حفظ هذا الإرث التاريخي بشكل مناسب، وفق معايير حفظ المواد التراثيّة والعلميّة والثقافيّة.
كنوز لا تُثمّن
بتنهّدٍ، يتحدّث جورج الصافي عن الأثر الذي تركه الوالد فيه، مؤكدًا أنّه تعلّم منه أمورًا كثيرة لا تعدّ ولا تحصى. ويضيف: «كان ينصحنا دومًا في كلّ المواقف والظروف، ولم يكن يؤجّل الأمور. أنا بدوري أنقل نصائحه إلى أولادي، فهي بمثابة كنوز لا تُثمّن لمدى العمر. وديع الصافي مدرسة ومعهد إنساني ديني ووطني».
ويتابع: «في الفنّ، الموسيقى لا تنضب. وطالما الإنسان يتمتّع بموهبة موسيقيّة، فهذا يعني أنّ إنتاجه لا يتوقف. وديع الصافي لا حدود له». يستذكر أغنية «الليل يا ليلى» التي غنّاها والده في الخمسينيّات، قائلًا: «عندما نصغي إليها مجدّدًا كأنّنا نسمعها للمرّة الأولى، على قدر ما كان أداؤه غزيرًا ورائعًا حتى إنّه لم يكن يجيد الغناء المُسَجَّل لأنّه يغنّي في كلّ مرة بطريقة مختلفة، ويضفي على الأغنية روحًا جديدة».
ويردف: «أغنياته تتحدّث عنه؛ عندما ينشد أغانيه الروحيّة، يقنع المستمع أو المشاهد بوجود الربّ والقديسين من خلال جمال أدائه وصدقه المطلق. كذلك، بكى مستمعوه من الأوروبيين والأميركيين متأثرين بأدائه، على الرغم من أنّهم لم يفقهوا شيئًا من كلمات الأغاني ومعانيها. هذه نعمة ربّانيّة حتى إنّ الفنّانين الذين يغنّون الروك والأوبرا يتمثلون بوديع الصافي الذي تحوّل إلى ظاهرة».
أبًا عن جدّ
ردًّا على السؤال الآتي: «هل يؤيد جورج الصافي سلوك أولاده طريق الفنّ الذي يتطلّب تنازلات معيّنة؟»، يجيب: «الانتشار أصبح اليوم سريعًا لكن جودة الأغاني هبطت. الموهبة الفنّية تفرض نفسها، وولداي شربل وجاد يتمتّعان بها، ولا يمكن أن أسمح لنفسي بالوقوف حجر عثرة أمام تنميتها. الفنّان الحقيقي يفرض نفسه. شربل وجاد فنّانان حقيقيّان يتمتّعان بروح فنّية وموسيقيّة عالية».
عن أعماله الجديدة، يؤكد أنّ هناك أعمالًا عدّة جرى التحضير لها لكن إصدارها معلّق بسبب الأوضاع الحاليّة.
ويختم جورج الصافي حديثه إلى «قلم غار» بشكر الربّ على «الأمور السيّئة قبل الجميلة لأنّنا نتعلّم من خلالها أن نكون أقوى من الصعاب». ويحمده على «بركاته المنظورة وغير المنظورة». ويطلب منه «أن يحفظ وطننا لبنان ويُكثر من الناس الطيّبين».