طوني لطيف
إن الهويّة هي التي تربط مجموعة ما من البشر ببعضها البعض عبر الزمن، وتربط أجيالها عبر التاريخ لكي تبقى وتنمو وتستمر، ومعها تنتشر تلك الهويّة عبر العصور.
وإذا ما ضاعت الهويّة، انفصلت تلك المجموعة البشريّة عن تاريخها، وأصبحت أجيالًا ضائعة بلا ذاكرة وبلا تاريخ. والبشرية بلا ذاكرة تتوقّف في مسيرة التاريخ ووجدان الزمن، وتموت تاركةً خلفها أشلاء أشباه الرجال والبشر.
قد عرف التاريخ كبار العظماء، وتشرّف بمعرفتهم، وذاب في كلماتهم، وسافر في فكرهم الذي حمل حتى يومنا هذا أساطير من التعاليم والأقوال التي ساهمت في انتشار ثقافات مختلفة، فباتت كلمات قائلها محفورة ومطبوعة في أذهان الكثير من الأجيال.
وتغنّى التاريخ بمعرفة المعلّم الذهبيّ الفمّ أي القديس يوحنا.
وكي يكتمل مجد هذا التاريخ، عاش في جبل “نابو” قديسٌ آخر ومعلّمٌ قرّر الانقطاع عن العالم والعيش في العراء، بعدما حوّل الجبل من مساحة تملكها الشياطين إلى هيكل كرّسه لله وأقام فيه، فتمكّن هذا القديس من هداية أهل ذلك الجبل وإزالة آثار الوثنيّة منه.
وقد زار يوحنا الذهبيّ الفمّ في شبابه مار مارون وأصبح صديقًا له.
وكان يوحنا مولعًا بالحياة النسكيّة في صباه، وقد انقطع إلى النسك والزهد 6 سنوات في سنّ العشرين. ومَنْ منّا لا يتذكّر تلك الرسالة التاريخيّة إلى صديقه مارون يوم نُفِيَ إلى كوكوز في العام 404، فكتب إليه قائلًا: “إلى مارون الكاهن الراهب، وبعد، فإننا مرتبطون معك بعلاقة الصداقة والمودّة ونتصوّرك كأنك حاضر لدينا، لأن عين المحبّة لا يصدّها بُعد الطرقات الشاسعة ولا يضعفها طول الزمان. وكنّا نود أن نكاتبك مرّات كثيرة ولكن مشقّات الطرقات وعدم وجود من يسير نحوكم، منعنا عمّا نتمنّاه من مراسلتكم. فنحيّيك بالسلام، مؤكّدين لك أننا نتذكرك دائًما، وأنك نازل في فؤادنا أينما كنّا. لأنه ولو كنّا من حيث الجسد بعيدين ونسألك قبل كل شيء أن تُقدّم الصلوات من أجلنا”…
كان مارون شهيدًا حيًّا بتجرّده وممارسته الكفر بالذات إلى أقصى حدّ، حاملًا صليبه وماشيًا خلف الربّ في مأكله وملبسه وصومه وسهره. وقد قرن القديس مارون الفضائل الروحيّة بالفضيلة الإنجيليّة العظمى وهي “محبّة القريب”.
“إن حياة مارون وفضائله تتضمّن العناصر الجوهريّة والخصائص الرئيسيّة الروحانيّة للكنيسة المارونيّة من خلال هذا النُسك البطولي الصلب والعنيد بالمثل المسيحيّة إلى درجة الاستشهاد المستمر، والطاقة الرسوليّة المتحرّكة أبدًا نحو تحسين القريب والمجتمع جسديًّا وروحيًّا وهدايته إلى المسيح” (تاريخ الموارنة، الأب بطرس ضو).
وبعد… قد يكون تاريخ قدّيسينا وإيمانهم أصدق من صلوات الكثير من شعوب هذا الزمن وكلماتهم، والمحبّة الصادقة التي خاطب بها الذهبيّ الفمّ صديقه مارون قد توازي كلماته مجلّدات من الكذب والخداع اللذين يسيطران على المجتمع.
قد يظنّ البعض أن التغيير هو فقط للضعفاء، ويعتقد آخرون أن التاريخ هو مقبرة الأمجاد لهؤلاء الناس.
لذلك، أختم بالقول: إن الإيمان الذي واجه به مارون الشياطين، وحارب به يوحنا الذهبيّ الفمّ مُبغِضيه لهو إيمانٌ مُكلّلٌ بمجد سيّدنا يسوع المسيح وعذاباته وموته وقيامته. هذا الإيمان هو سلاحنا الوحيد الذي به ننتصر ونعبر إلى زمن نعيش فيه بمحبّة وشراكة أبديّة مع الله.