طوني لطيف
“في أساس المارونيّة راهبٌ قديس، ففي القداسة بدايتها وفي القداسة استمرارها، وبدون قداسة نهايتها”. هذه هي بصراحة واضحة وساطعة كشمس “قورش” اللاهبة كلمات المونسنيور الراحل ميشال حايك الذي كتب مقالات تاريخيّة، شارحًا فيها الجوهر الروحي اللامنظور لهذه المارونيّة التي وإن كتبنا عنها، فبِرَبّكم هل الكلام عن تاريخ عمره أكثر من 1600 عام يفي هذه الطائفة حقّها؟!….
المارونيّة هي على مثال مؤسّسها عابرة للمذاهب جميعها، فكما كان القديس مارون هو أيضًا للكنيسة جمعاء، قبل الانقسامات التاريخيّة، ليس بصدفة أن تكون الطائفة التي أسّسها تحمل منفردةً اسم قديس لم يعرف سوى الله مسحورًا به، مُتنسّكًا على قمّة جبل “نابو” المجبول بالشرّ والخطيئة. وحده هو هذا “السيّد الصغير” استطاع، من خلال هذا الإيمان وهذه العلاقة مع الخالق، مسحنة هذا الجبل، هو الذي عاش في العراء متّحدًا صيفًا وشتاءً مع ربّه، ومن قال إن الصلاة لا تصنع العجائب؟
وبعد، للوثنيّة مكانة خاصّة بالنسبة إلى الإنسان، نعم! فهي حاضرة منذ القديم وإلى يومنا هذا، فكل عمل بشري لا شراكة فيه مع الله إنما هو عمل وثني بامتياز… الوثنيّة ليست فقط عبادة أو فعل شرّ، بل هي وسيلة يستعملها الفرد أداة للسيطرة على ذاته البعيدة كل البعد عن الخالق، فيستسلم لنزواته ليصبح رسول بغض وأنانيّة وكفر إلى أن تضيع روحه في هذا البحر الهائج الظالم والبشع ليموت غرقًا في مياه الشرّ.
كيف استطاع هذا “السيّد الصغير” أن يبني جسورًا للبشر يعبرون من خلالها إلى الخالق؟؟؟
كيف تكسّرت أطماع الناس وسُحِقت أنانيّتهم أمام عظمة هذا السيّد وصلابته؟
ماذا أراد القديس مارون من الموارنة أن يصنعوا للآخرين على مثاله؟؟؟
تساؤلات لا تنتهي ولو استطعنا أن ننشر كتبًا عن القديس مارون لبقي هذا اللغز الذي لا يكتشفه إلا من أراد أن يتشبّه بهذا العظيم بالفعل وليس فقط بـ”الهويّة”…
ويبقى السؤال الذي يراودني كل لحظة: هل يستحق الموارنة اليوم، بعد كل هذا التاريخ، أن يتفاخروا ويجاهروا بانتمائهم إلى المارونيّة؟؟؟ يا سادة، إن كلمات مارون لأصدق من كلامكم، وأطهر من قلوبكم، وأقرب إلى الكمال من جهلكم. لا حدود له، يحاكي الربّ ساعة يشاء، يعيش في العراء، لا يخفي شيئًا عن الخالق، لا يخجل من أحد ولا يهاب أحدًا غير الربّ. هذا هو إرث مارون الذي تركه لنا لنكون جسورًا في مجتمعاتنا المعقّدة المعذّبة المنقسمة، جسورًا نساعد الناس على اجتيازها، متسلّحين بالإيمان الذي اختبره هذا القديس العظيم.
هذا هو مارون، بدون فلسفة، الصامت أمام الله، المصغي والمتأمّل، صانع مجده العظيم المنسحق بين يديّ الخالق، هو الذي عاش بلا حدود تفصله عن ربّه. أراد أن تكون المارونيّة بعده أمثولة في التواضع، منفتحة على الكون، لا يحدّها فاصل سوى تجذّرها وتعلّقها بإيمان انطلقت بدايته مع هذا “السيّد الصغير”، واستمرّت على الرغم من الصعاب والاضطهادات مع شربل ورفقا ونعمة الله وغيرهم من الذين فهموا قصّة مارون وعاشوا مبادئه وتغنّوا بفضائله، فعبروا هذا الجسر الروحي مع الكثيرين ممّن مشوا طريق الربّ بصمتٍ وخشوع مع قديس يُدعى مار مارون.