غيتا مارون
بين القديسة الإيطاليّة جيانا بيريتا مولا والشابة الكاثوليكيّة اللبنانيّة الأصل جيسيكا حنا تلازم في مسيرة الحبّ والقداسة.
كما جمعهما التقارب في المسار المهني إذ اختارت الأولى الطبّ والثانية الصيدلة، اتفقتا أيضًا على التضحية بنفسيهما من أجل جنينهما. وشهدتا من خلال حياتهما بأن الدعوة للقداسة موجّهة إلى الجميع، وليست مقتصرة على المكرّسين فحسب، بل تعني العلمانيين الذين يكتشفون دعوتهم في قلب الكنيسة، ويقرّرون الشهادة للحبّ.
القديسة جيانا… ذبيحة حبّ
بذلت جيانا ذاتها من دون شروط، ورغبت في تأسيس عائلة مسيحيّة، فتزوّجت بيار مولا في 24 أيلول 1955، وعاشا حياة هانئة.
رُزِقَ الزوجان بثلاثة أبناء: بيار لويدجي وماريا زيتا ولاورا. من ثم، فقدت جيانا جنينَيْن، لكنها اختبرت سرّ الألم في حياتها في العام 1961، في خلال حملها الرابع، بعدما اتّضح للأطبّاء أنها تعاني من ورم ليفي كبير (ورم حميد) في رحمها.
على الرغم من إدراكها مخاطر الاستمرار في الحمل في حالتها، خيّرها الأطبّاء بين ثلاثة حلول: الإجهاض أو استئصال الرحم أو استئصال الورم فقط، علمًا بأن الكنيسة الكاثوليكيّة سمحت باستئصال الرحم في حالات الأورام حفاظًا على حياة الأمّ إلا أن جيانا اختارت إزالة الورم فقط باعتباره الخيار الوحيد الذي يحفظ حياة الجنين، وإن كان يُعَرِّض حياتها للخطر.
قبل أن تخضع جيانا للجراحة، طلبت من أسرتها إذا ما اضطرت إلى الاختيار بين حياتها وحياة طفلها في خلال العمليّة أن تختار إنقاذ الطفل. وقالت لزوجها: «إذا كان لا بدّ من أن تختاروا بيني وبين الطفل، فلا تتردّدوا: اختاروا الطفل. أنقذوه».
قضت جيانا الأشهر السبعة المتبقّية من حملها في جمعيّة العمل الكاثوليكي، وتابعت عملها في الطبّ بنعمة الروح القدس.
في 21 نيسان 1962، حانت ساعة الولادة في السبت المقدّس، وأعربت جيانا عن إصرارها على الحفاظ على حياة الطفل، مهما كانت العواقب وخيمة.
بعد جراحة قيصريّة، رُزِقت بطفلتها الأخيرة جيانا-إيمانويلا لكنها فارقت الحياة بعد مرور أسبوع على ولادتها في 28 نيسان 1962 إثر مضاعفات شديدة.
كانت كلمات جيانا الأخيرة: «أحبّك يا يسوع»، وفق ما قال الأطبّاء الذين أشرفوا على حالتها وشهدوا على نزاعها الأخير، وأخبروا أنها استودعت روحها بين يدي خالقها بعدما مزّقتها الآلام المبرّحة.
جيسيكا حنا… «مبارَكة بالسرطان»
اكتشفت جيسيكا حنا، أمّ لأربعة أولاد، إصابتها بسرطان الثدي عندما كانت حاملًا بابنها الرابع في العام 2020. وقد نصحها الكثير من الأطبّاء بالإجهاض لكنها رفضت إنهاء حياة جنينها، واختارت «الحياة».
أكدت جيسيكا أن دفاعها عن قيم الحياة حملها إلى عيش إيمانها الثابت بالله، مشيرة إلى أنها طلبت شفاعة القديسة جيانا بيريتا مولا والطوباوي الأب سولانوس كايسي.
وأعلنت أنها اختارت الخضوع لعلاجات آمنة لا تعرّض جنينها للخطر، على غرار ملهمتها القديسة جيانا.
بعد ولادة طفلها الرابع، شفيت جيسيكا من السرطان، لكن المرض الخبيث عاودها في العام 2022.
أنشأت صفحة «مبارَكة بالسرطان» عبر إنستغرام وفيسبوك لنشر الفرح في الأوقات الأليمة وحضّ متابعيها على تقديم معاناتهم للمسيح، موضحة أن سبب تسمية الصفحة يعود إلى أن معاناتها دفعتها للتخلّي عن العالم والتركيز الكلّي على الحياة الأبديّة.
وشدّدت على أن خطة الله هي خطتها الوحيدة، داعية إلى عيش الفرح عند مقاساة الآلام لأن المسيح جعل الألم فداءً عندما مات على الصليب.
وقالت في منشور كتبته في الأسبوع العظيم من العام الحالي: «إن جمعتك العظيمة ستصبح قريبًا أحد الفصح طالما أنك تحمل صليبك أوّلًا ولا تهرب منه».
كما شجّعت جيسيكا المؤمنين دومًا على طلب شفاعة مريم العذراء والقديسين، وقادت الصلاة مع متابعيها، وتلت معهم المسبحة الورديّة المقدّسة.
في 6 نيسان 2024، انتقلت جيسيكا إلى الحياة الأبديّة، وفق ما أعلن زوجها لامار عبر إنستغرام وفيسبوك في حين أعرب محبّوها عن حزنهم الشديد لرحيلها، واعتبروها «قديسة».
في أحد منشوراتها عبر إنستغرام، كتبت جيسيكا: «الحياة مدرسة للروح، والموت يوم التخرّج»، داعية إلى عدم اعتبار حياتنا على الأرض وجهتنا النهائيّة، بل النظر إليها كإعدادٍ لمسيرتنا الأبديّة.
اليوم توارى جيسيكا حنا الثرى في ساوثفيلد-ميشيغان، ويودّعها أحبّاؤها بقلوب يتعانق فيها الحزن والرجاء لأن أنظار المؤمنين لا تقتصر على هذه الحياة الفانية، بل ترتفع إلى الحياة الجديدة.
إن ذكرى القديسة جيانا والأمّ الشابة جيسيكا ستبقى عابقة في القلوب، تنثر طيب المسيح في كل أنحاء العالم.
صحيح أن قواسمَ عدّة تجمعهما، مثل اختيار خلاص جنينهما بدل إنقاذ حياتهما وتشابه الاختصاص والمهنة والمرحلة العمريّة حتى إنهما انتقلتا إلى الحياة الأبديّة في شهر نيسان، لكن الأهم يكمن في الجامع الأقوى بينهما ألا وهو حبّ يسوع حتى الشهادة.