البابا فرنسيس
أرسل الله جبرائيل، وهو رسول البشارات الإلهيّة الكبرى، واسمه يعني قوّة الله، أرسله إلى قرية لم تُذكر قط في أسفار الكتاب المقدّس العبري: الناصرة…
هناك، حمل الملاك رسالة غير مسبوقة من حيث الصورة والمضمون، لدرجة أنّ قلب مريم اهتزّ واضطرب. بدل أن يحيّيها التحيّة التقليديّة «السلام عليكِ»، قال جبرائيل لمريم العذراء: «افرحي!»، «ابتهجي!»، وهو نداء عزيز في التاريخ المقدّس لأنّ الأنبياء كانوا يستخدمونه عندما كانوا يعلنون عن مجيء المسيح إلى بنت صهيون (راجع صفنيا 3: 14؛ يوئيل 2: 21-23؛ زكريا 9: 9). هي الدعوة إلى الفرح التي وجّهها الله إلى شعبه عندما أنهى مدّة الجلاء وجعله يشعر بحضوره الحيّ والفاعل بينه.
كذلك، دعا الله مريم باسم محبّة غير معروف في تاريخ الكتاب المقدّس: Κεχαριτωμένη الذي يعني «الممتلئة بالنعمة الإلهيّة». مريم ممتلئة بالنعمة الإلهيّة. هذا الاسم يقول لنا إنّ محبّة الله سكنت قلب مريم منذ زمن، وما زالت تسكنه. ويقول لنا كم هي «جميلة» وقبل كل شيء كم أثّرت في داخلها نعمة الله، فجعلتها تحفة فريدة.
هذا اللقب المفعم بالمحبّة الذي أعطاه الله لمريم فقط، رافقته مباشرة كلمةُ طمأنة: «لا تخافي!». حضور الله يعطينا دائمًا هذه النعمة من ألا نخاف، ولذلك قال لمريم: «لا تخافي!». وقال الله: «لا تخف» لإبراهيم ولإسحاق ولموسى (راجع تكوين 15: 1؛ 26: 24؛ تثنية الاشتراع 31: 8؛ يشوع 8: 1). ويقول ذلك لنا أيضًا: «لا تخف، استمرّ. لا تخف!». «الإله القدير»، إله «المستحيل» (راجع لوقا 1: 37)، هو مع مريم، معها وبقربها، وهو رفيقها وحليفها الرئيس، وهو الأزلي «الأنا معك» (راجع تكوين 28: 15؛ خروج 3: 12؛ قضاة 6: 12).
ثم بشّر جبرائيل مريم العذراء برسالته، وجعل يتردّد صدى نصوصٍ كثيرة من الكتاب المقدّس في قلبها، كلّها لها صلة بصفة الملوكيّة والمسيحانيّة للطفل الذي سيولد منها، وفيه تتمّ النبوءات القديمة. الكلمة الآتية من عَلُ تدعو مريم إلى أن تكون أمّ المسيح المنتظر من نسل داوود. إنّها أمّ المسيح. سيكون ملكًا ليس بحسب طريقة البشر والجسد، بل بحسب طريقة الله والروح. اسمه سيكون «يسوع» الذي يعني «الله يخلِّص» (راجع لوقا 1: 31؛ متى 1: 21)، فيذكّر الجميع وإلى الأبد بأن ليس الإنسان الذي يخلِّص، بل الله وحده هو الذي يخلِّص. يسوع هو الذي يحقّق كلام النبي أشعيا: لا بمرسل ولا بملاك خلَّصهم، بل هو نفسه خلَّصهم، «بِمَحَبَّتِه وشَفَقَتِه». (أشعيا 63: 9).
هذه الأمومة أثَّرت في مريم في أعماقها. وهي امرأة عاقلة، أي قادرة على أن تفهم الأحداث من داخلها (راجع لوقا 2: 19-51)، سعت لأن تفهم وأن تميّز ما يحدث لها. لا تبحث مريم حولها، بل في داخلها لأنّه كما يعلّم القديس أغسطينوس: «الحقُّ يسكن داخل الإنسان» (الديانة الحقيقيّة 39، 72). وهناك، في أعماق قلبها المنفتح والحسّاس، تسمع النداء الذي يقول لها أن تثق بالله الذي أعدّ لها «عنصرة» خاصة. كما حدث في بداية الخلق (راجع تكوين 1: 2)، أراد الله أن «يغمر» مريم بروحه القدوس، وقدرته قوّةٌ تفتح ما هو مغلق من دون إكراه، ودون مساسٍ بالحرّية الإنسانيّة، وأراد أن يغمرها «بسحابة» حضوره (راجع 1 قورنتس 10: 1-2) حتى يكون الابن حيًّا فيها وهي فيه.
واتّقدت مريم بالثقة: إنّها «مصباحٌ ذو أنوار متعدّدة»، كما يقول تيوفانوس في كتابه «قانون البشارة». سلّمت نفسها لله، وأطاعت، وفتحت المجال: فهي «خدرٌ صنعه الله» (المرجع نفسه). قبلت مريم الكلمة في جسدها واندفعت تحمل أكبر رسالة أُوكلت يومًا إلى امرأة، إلى مخلوق ابن إنسان. استعدّت للخدمة، وكانت ممتلئة من كل شيء، ليست عبدة، بل معاونة لله الآب، مليئة بالكرامة والسلطة لإدارة عطايا الكنز الإلهي، كما فعلت في قانا، لكي يتمكّن الكثيرون من الاستفادة منها بوفرة.
أيّها الإخوة والأخوات، لنتعلّم من مريم، أمّ المخلّص وأمّنا، أن نفتح آذاننا لكلمة الله الإلهيّة، فنقبلها ونحفظها، لكي تحوّل قلوبنا إلى هياكل لحضوره، وإلى بيوت ضيافة حيث ينمو الرجاء.
المصدر: الموقع الرسمي للفاتيكان
مقتطفات من كلمة البابا فرنسيس في المقابلة العامّة الأسبوعيّة (22 كانون الثاني 2025)