الإكسرخوس الرسولي فادي بو شبل
في الرابع والعشرين من شباط 2024، تلقّيت رسالة إلكترونيّة من شاب يُدعى جو لحود، يسألونني فيها عن كاهن نسيب له، ينتمي إلى أبرشيّة كاراكاس-فنزويلا، وقد قُدِّمَت دعوى إعلان قداسته إلى دائرة دعاوى القديسين في روما، وحدث أنّني كنت منذ أقلّ من أسبوع قد أرسلت كتابي باللغة الإسبانيّة، المجدّد والمعدّل، إلى المطبعة ليُعاد طبعه، وهو بعنوان «أنوار من الشرق»، والذي أكتب فيه موجزًا عن الكنيسة المارونيّة وروحانيّتها ووجودها في العالم وقدّيسيها، إضافة إلى القدّيسين الذين عاشوا في لبنان وهم ينتمون إلى طقوس الكنيسة الكاثوليكيّة الأخرى. وكم كانت مفاجأتي كبيرة عندما بدأت مسيرة البحث عن هذا الموضوع، وكم أدهشتني نعمة الروح القدس في أبناء هذا القطيع الصغير (الكنيسة المارونيّة)، داخل الحدود الجغرافيّة لوطنهم الروحي لبنان وخارجه!
من هو الخوري بيدرو لحود؟
وُلِدَ بيدرو لحود سعادة في منطقة باستورا في كاراكاس-فنزويلا في 9 أيلول 1932، وهو الابن التاسع بين إخوته الاثني عشر لوالديه طنسا خليل لحود وماريانا سعادة، العائلة المارونيّة المهاجرة من سبعل-زغرتا، شمال لبنان، المعروفة ببساطتها وتواضعها، بحيث يفيض منها الحبّ والغفران، وهذا ما تعلّمه منها، بالإضافة إلى المشاركة اليوميّة في الذبيحة الإلهيّة والصلاة الدائمة والاعتراف المتواتر…
نشأة لحود ودعوته
على الرغم من أنّ بيدرو عاش في فنزويلا إلا أنّ طفولته وحداثته كانتا في شمال لبنان. وقد عاد إلى فنزويلا برفقة أخيه، وبدأ بالعمل تاجرًا في محل أثاث في منطقة مار أغوسطينوس، واللافت أنّ محلّه قد تحوّل ليصبح ملجأً للفقراء الذين كانوا يأتونه لطلب المعونة الروحيّة والمادّية.
سمع صوت الربّ في قلبه، يناديه باسمه، فبدأ بدراسة اللاهوت من دون أن يخبر أحدًا إلى أن دخل إكليريكيّة مار يوسف القديمة في العاصمة الفنزواليّة التي أسّسها الكاردينال خوسيه أُمبرتو كينترو للدعوات المتأخرة، وكان له من العمر حوالي 33 عامًا، وهو عمر السيّد المسيح، في خلال قيامه بالعمل الخلاصي.
تميّزت حياته في الإكليريكيّة بالصلاة والخدمة والاستقامة، وكان يُظهر أهمّية كبرى للمسائل الاجتماعيّة الطارئة. ما إن أنهى دروسه الفلسفيّة واللاهوتيّة حتى قبل السيامة الكهنوتيّة في كاتدرائيّة كاراكاس، بوضع يد الكاردينال خوسيه أُمبرتو كينترو رئيس أساقفة كاراكاس في 30 أيّار 1971.
وصل إلى مسمعه أنّ الكاردينال ينوي إرساله إلى رعيّة مقتدرة مادّيًا، فطلب من الأسقف المسؤول عن الإكليريكيّة آنذاك، المطران أوفيديو بيرس موراليس، أن تكون خدمته في الحيّ الفقير جدًّا الذي يُدعى سيلسا (هذا المكان الذي زاره بيدرو برفقة ثلاثة أشخاص من جماعة جنود مريم لأوّل مرّة في العام 1968)، وكان له ما أراد بفضل توسّط المطران أمام الكاردينال خوسيه أومبرتو كينترو.
حياة لحود الكهنوتيّة
مع نهاية تشرين الأوّل 1971، وصل الكاهن الجديد إلى هذا الحيّ التابع لرعيّة الأمّ كابريني، حيث مكث لفترة قصيرة.
وفي أيلول 1972، انتقل نهائيًّا إلى الحيّ المذكور، وكما يقول في مذكراته: «كان في حوزتي بعض الكتب، وسرير مع فراش مستعمل، لكن الله كان قد سبقني إلى هناك». في هذه الرعيّة، عاش وطوّر حياته الكهنوتيّة.
عندما سأله أحدهم عن الحيّ، قال: «إنّ سكان الحيّ هم من الوافدين من داخل البلاد الذين يعانون الفقر، وأوضاعهم صعبة».
وبما أنّ الحياة الروحيّة تقتضي بأن يشارك المؤمنون في ذبيحة القداس، بالتالي كان عليهم الانتقال إلى مكان آخر خارج الحيّ حيث يسكنون لأنّه لم يكن لهم مكان لائق للاحتفال بالأسرار الإلهيّة. أنشأ صالة للتعليم المسيحي وغرفة لسكناه، ثم كابيلا صغيرة حملت اسم القديسين الرسولين بطرس وبولس. وبدأ يعمل على تنظيم الجماعة الكنسيّة من خلال التعليم المسيحي وتلبية الحاجات الروحيّة والمادّية لسكان المنطقة، مثابرًا على الرغم من كلّ الصعوبات حتى توصّل إلى مبتغاه، وكان ذلك في العام 1974 عندما وافق الكاردينال خوسيه ألي ليبرون موراتينوس رئيس أساقفة كاراكاس على إنشاء رعيّة قانونيّة خاصّة لذاك الحيّ، تحت اسم القدّيس يوحنا فياناي المعروف بخوري آرس.
عمل الخوري لحود طوال حياته على تحسين نوعيّة الحياة في رعيّته، فأسّس مدرسة فيرجينيا دي رويس، ثم المجمع الرعوي الذي ضمّ مستوصفًا ومختبرًا طبّيًا.
دعوته الثابتة في محبّة الله والقريب من خلال عيشه للخدمة الكهنوتيّة صارت نبع إلهام للكثيرين، من خلال صلاة المسبحة اليوميّة والعزم والثبات وتقدمة الذات والخدمة والإصرار والعمل الدائم، لكي لا يبقى أيّ إنسان في الرعيّة محتاجًا لسماع كلمة الله، وممارسة الأسرار، واختبار غنى محبّة الربّ ورحمته.
أظهر محبّته العميقة لأبرشيّته، فراح يشجّع على اللقاءات الكهنوتيّة (لو مرّة في الشهر)، وفي كلّ مرّة في رعيّة مختلفة.
إنّ الخوري بابلو أوركياجا الذي درس معه في الإكليريكيّة قال عنه: «كان شهمًا وبسيطًا ذاك العجوز»، (لأنّه كان قد تخطى العمر التقليدي لدخول الإكليريكيّة).
رافقه هذا الكاهن ثلاث سنوات في حيّ سيلسا، مردّدًا: «كانت لي النعمة بأن أكون من المختارين الذين رافقوا عزيزنا “العجوز” في تلك المهمّة، والرسالة الصعبة، لأنّه لم يكن هناك أيّ شيء… كان قدوة لي في التصميم وعيش القيم وبذل الذات من أجل الفقراء. وعلى الرغم من طبعه الموسوم بالعناد العربي، استطعت أن أتعرّف إلى أعماقه، وكانت تجمعنا المودّة، وشكري أبديٌّ، وذكراه لن تُنسى».
في 31 آذار 1995، وإثر ذبحة قلبيّة، ترك الخوري بيدرو عالمنا ملبّيًا دعوة الآب السماوي إلى منزله الدائم، تاركًا وراءه شهرة قداسة، ما لبث أن انتشرت كالنار في الهشيم، انطلاقًا من حيّ سيلسا إلى كلّ مدينة كاراكاس، وقسمًا كبيرًا من فنزويلا، بعدما عاش راديكاليّة الإنجيل، مختارًا الاهتمام بالفقراء.
الخوري بيدرو اختبر حياة المعوزين والشحاذين من خلال عيش التجرّد المرفق بالتضحيات، بحيث كان يوزّع كلّ ما يصل إليه من الخيرات على الفقراء، وفي أكثر من مرّة لم يكن يتناول طعامه لكي يتسنّى له أن يعطيه لمن يحتاجه. لذلك، كان الفقراء يقفون أمام منزله في طوابير كبيرة لينالوا المساعدة المادّية والروحيّة.
مطالبة بفتح دعوى قداسة لحود
في خلال زيارة الكاردينال بالتسار بورراس هذه الرعيّة في 22 أيّار 2022، سلّم الخوري روبن خوسيه سامبرانو لوبيس ملفًّا خاصًّا عن مؤسّس الرعيّة وخوريها الأوّل، وقد أعدّه بالاشتراك مع أنسباء الخوري لحود المتوفّى سنة 1995، لكي يُرْسَل إلى روما في حزيران 2022 وتبدأ الدعوى.
وممّا جاء فيه: «إنّ جماعة سيلسا تدعم بحرارة هذا الطلب لأنّ شهرة قداسة ذكرى الخوري بيدرو لحود وإكرامها يظهران بشكل ملحوظ، وبما أنّني مدبّر رعويّ أشهد على ذلك». هذا ما قرأه الخوري سامبرانو من الوثيقة المقدّمة للمدبّر الأسقفي الكاهن غوارادينو باررتشيني المعنيّ بشؤون إعلان القداسة، بحضور عدد من أفراد عائلة الكاهن لحود. كذلك، طُلِبَ نقل رفات الخوري لحود من المدافن إلى رعيّة مار يوحنا فياناي، وأن تُعلن الرعيّة مزارًا أبرشيًّا.
وبحسب ما أعلن المدبّر الأسقفي الكاهن غوارادينو باررتشيني، فإنّ هذا الطلب سيُرسَل إلى روما في حزيران 2022، مرفقًا بطلب إعلان قداسة أبراهام وباتريسيا ريجيس مؤسّسي حركة التربية الشعبيّة، إيمان وفرح، مع طلب الإذن «لا مانع» من بدء مسار الاعتراف ببطولة حياة القداسة التي عاشها الخوري لحود في جهاده لمصلحة الفقراء في تلك الناحية.
«إنّ الخوري لحود هو كاهن من أبرشيّة كاراكاس، من والدين لبنانيين، أتى إلى سيلسا ليملأ المكان بالحبّ والغفران والرحمة. ولقد ترك أعمالًا كبيرة مثل هذه الرعيّة حيث نجتمع كلّ أحد، سيلسا مكان للبركة»، هذا ما أشار إليه الخوري سامبرانو.
في 16 شباط 2024، وبطلب من الأبرشيّة اللاتينيّة في كاراكاس، كُشِفَ عن رفات الخوري لحود. وبفضل لجنة من الأطبّاء والعلماء، تمَّ التأكد من صحّتها وكمالها، ووُضِعت في مذخر خاص داخل رعيّة مار يوحنا فياناي، مؤسّسها، لتكون نبع نعمٍ للمؤمنين.