غيتا مارون
حبّر الإبداع بريشته، فرسم كلمات مزنّرة بالثقافة والمعرفة، انبثقت من كيانه وعبق رحيقها على أجنحة الورق، وبُثّت عبر الإذاعة والتلفاز.
قمّطته أحرف الأبجديّة العربيّة، فانتمى إلى لغة الضاد، ودوزن إيقاعها.
في حقيبة عمره، اختمر 30 عامًا من العمل في الإعلام والتربية، وأغنى جعبة قرّائه بكتابه «توالي الحبر».
أشرقت بداياته عبر أثير صوت المحبّة وصوت لبنان. من ثم، أطلّ عبر المؤسسة اللبنانيّة للإرسال والمستقبل، وكتب في مجلّة المسيرة.
حافظ على وديعة أستاذه الراحل عمر الزين الذي منحه كنزه الفكري الثمين؛ مكتبته وأرشيفه ودوره في التدريب الإعلامي.
حين قرع الألم بابه، أجابه: «أيتها التجربة المسمّاة مرضًا سرطانيًّا، لن تتمكّني من محو نعمة الربّ. ستكون لي السلطة بما وهبني الله لأنهيَكِ. فما حاولتِ سرقته من صوتي، سأتلوه من حنجرتي إلى السماء نداءً إيمانيًّا، وما شئتِ تكسيره في رأسي لتموتَ الفكرة، سأتمكّن من أن أحرق أشواككِ… وسأسارع بإيماني إلى أن أرميَكِ بيدي المرتفعة صوب الربّ».
عرّف بنفسه بأنّه «كاتب الحروف والكلمات والإعلامي المطلّ لكنّه الخاسر في المرحلة الآنيّة».
إنّه اللغوي اللبناني الأوّل من دون منازع بسّام برّاك الذي يشارك «قلم غار» اختباره المكلّل بالأشواك والانتصارات.

-كيف تلمس حضور الله في حياتك؟
منذ نعومة أظفاري، التزمت في الخدمة الكنسيّة وتلاوة القراءات.
أشعر بأنّ الربّ موجود دائمًا حولي، سواء أكان وجوده إيجابيًّا أم سلبيًّا؛ أقصد بـ«سلبي» أنّه ينساني أحيانًا، ويلتفت إليَّ أحيانًا أخرى، قائلًا: «عليكَ أن تدبّر أمورك وحدك!». فأستاء منه، وأغضب عليه.
في الواقع، علّمني الربّ أن أمسك القلم وأخطّ الكلمات، فكتبت الكثير عن الله ويسوع المسيح والجمعات العظيمة. كل عام، أتخايل الجمعة العظيمة على طريقتي.
لذلك، علاقتي مع الله خاصّة، وأنا مصرٌّ على هذه الفكرة حتى الأمس واليوم والغد.
الله هو الأب والرفيق، وأحيانًا هو الصديق الذي «يتركني». يدير ظهره، ويقول لي: «عليك أن تدبّر شؤونك!».
-لماذا تعتبر نفسك خاسرًا في المرحلة الحاليّة؟
نعم، خسرت بعد العمليّة الجراحيّة التي خضعت لها، وهذه الخسارة تحصل في حياة الإنسان، لكننا نؤمن بأنّنا سنعود…
لقد عدتُ أساسًا إلى الشاشة، وأطللت عبر المؤسسة اللبنانيّة للإرسال لتغطية رحيل البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر وتطويب الراهبَيْن الكبّوشيين اللبنانيين ليونار ملكي وتوما صالح، وكنت مرتاحًا وفرحًا إذ رجعت إلى ذاتي وتغلّبت على خوفي من الإطلالة الإعلاميّة بعد عمليّة صعبة ووضعٍ في الرأس لم يتموضع بعد.

-ماذا اختبرت حين خطّ الألم حروفه الأولى في مسيرتك؟
في البداية، كنت أسمع كلمات وموسيقى لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة. ربما أراد الله أن ينبّهني من مشكلة مقبلة.
خضعت لصورة شعاعيّة، وصدرت نتيجتها بعد يومين. حينها، طلبت منّي المؤسسة اللبنانيّة للإرسال أن أعدّ تقريرًا عن علاقة سفيرتنا إلى النجوم فيروز بفرنسا، يوم زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منزلها في لبنان.
أنجزت التقرير الذي بُثّ بعد نشرة الأخبار. أحمد الله لأنّه سمح لي بإعداده قبل علمي بنتيجة الصورة التي بيّنت إصابتي بورم سرطاني في الرأس، فهو يعرف اعتناقي صوت فيروز، ولكان عدم إتمام هذا العمل بمنزلة عقاب…
راجعت 13 طبيبًا في لبنان، وأرسلت الفحوص إلى الخارج، فحصل تباينٌ بيني وبين زوجتي دنيز وأصدقاء قرباء: أنا أريد أن أخضع للعمليّة مغمض العينين، وهم يريدون أن أخضع لها وأنا فاتح العينين أي أن أكون صاحيًا وقادرًا على التعبير.
تعذّبت كثيرًا حتى قبلت بأن لا أغمض عينيَّ، وخضعت للجراحة في الرأس على مدار 6 ساعات، وتكلّمت في خلالها في السياسة والفنّ والدين، وتحدّثت عن الله، وصلّيت الأبانا والسلام وردّدت قانون الإيمان، وفقًا لتعليمات د. يوسف قمير.
-هل شعرت بالألم حينها؟ كيف عبرت هذا الاختبار المؤلم؟ ما دور الربّ فيه؟
كان البنج موضعيًّا. أحسست بحركة الأدوات الجراحيّة من دون وجع. في أثناء العمليّة، انتقل رأسي منّي؛ فُتِحَ من جهة الشمال. وعندما أرادوا إعادته إليَّ، تعبت، فغفوت.
احتضنتني مريم العذراء ورافقني القديس شربل مخلوف. اتكلت عليهما، منشدًا بصوتٍ مبحوح «إيماني ساطع» لفيروز.
خضعت للعمليّة في نهاية العام 2020، قبيل عيد الميلاد بأسبوع واحد. عدت إلى البيت ورأسي في وضع مختلف تمامًا عن السابق، وهذا ما أغضبني، فضلًا عن فترة الإقفال بسبب جائحة كورونا.
أمضيت الوقت في البيت مصلّيًا ومرنّمًا، ثم منفرشًا في سريري. استمرّت فترة النقاهة لحوالى 4 أشهر.
في أحد منشوراتي، التمستُ من يسوع أن يهديني شوكة صغيرة في رأسي (قبل سنتين من تشخيص إصابتي بالورم).
أصغى الربّ إلى طلبي لكن استجابته أتت في وقتٍ صعب جدًّا لأنّني كنت بعيدًا من الأصدقاء.
-من آزرك في رحلتك مع الألم؟
-في تلك الفترة العصيبة، ساندتني زوجتي لأنّها أفنت ذاتها كي أتمكّن من الاستمرار. اعتبرَت أنّ العمليّة الجراحيّة عبور بينما كنت أرفض الخضوع لها. هي رافقتني من طبيب إلى آخر وأصرّت على إجراء العمليّة في حالة الصحو كي أخرج منها متقدّمًا وأحافظ على صفتي الشخصيّة وأعمالي وأهتمّ بأولادي الثلاثة غدي ورنيم ونينار ليشعروا بأنّ يدي ممدودة إليهم مثلما هم يمدّون أيديهم إليَّ.
-كيف تصف وضعك الحالي؟
الله يهديني مرحلة جديدة لأنّها لا تشبه السابقة. بعد سنة، نتأكد من أنّ الورم زال كلّيًا، علمًا بأنّ العمليّة كانت ناجحة جدًّا.
أنا سعيد لأنّني أعتبر أنّ ما حصل معي هديّة من الله.

-كيف يمكّنك الإبداع اللغوي من إيصال كلمة الله إلى الآخرين؟
أجعل كلمة الله تصل إلى الآخرين من خلال كتاباتي. في رصيدي كتاب «توالي الحبر»، وكتاب ضمَّ حلقات الإملاء التي تلوتها في حضور أكثر من ألفي مشارك من أهل الثقافة والسياسة والإعلام على مدار 6 سنوات.
-بين الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، أين تجد نفسك؟
الثلاثة لي: قلمي يكتب، وصوتي يذيع، والقمّة في المرئي.
أحبّ المسموع: تحبير كلماتي بصوتي.
-هل تفضّل العمل في الإعلام الديني أو السياسي؟
للإعلام الديني نَفَسٌ آخر مميّز.
قبيل رحيل البابا يوحنا بولس الثاني في العام 2005، رغبت في السفر إلى روما كي أقبّل يده لكنه انتقل إلى الحياة الأبديّة قبل أن تتحقّق أمنيتي.
إثر غيابه، طلبت مني المؤسسة اللبنانيّة للإرسال تغطية وداعه في خلال 6 أيّام متتالية (مقابلات، ونقل مباشر) حتى إنّ المشهد الأخير -عند رفع تابوته- ما زال حاضرًا أمام عينيَّ.
شكّلت هذه التغطية الطويلة انتقالًا من مرحلة إلى أخرى في مسيرتي الإعلاميّة، وأدركت أنّني أمتلك قدرات إضافيّة. شعرت بالتعب في اليوم الأخير، وطلبت من البابا الراحل أن أراه، فأطلّ عليَّ في الحلم، وباركني.
أمّا في السياسة، فاختارتني المؤسسة اللبنانيّة للإرسال للتغطية الإعلاميّة عند رحيل شخصيّات سياسيّة محلّية وعربيّة وعالميّة.
أستطيع عبر الصورة أن أؤلف الكلمات وأتكلّم بسهولة من دون الاستعانة بأيّ ورقة. وهذه ميزة وهبني الله إيّاها.

-محبّتك قيثارة السماء فيروز جليّة، من هي بالنسبة إليك؟
بالنسبة إليَّ، خلق الله صوت فيروز لتتلوَ النبوءة، فهو لم يسترح في اليوم السابع، بل بقي متعبًا حتى أوجد لما ابتكره «صوتًا»، فكان اليوم الثامن…
كما جمعني صوتها بالإعلامي جورج صليبي، فبنينا صداقة متينة على طريق مديد…
-في النهاية، علامَ تشكر الربّ؟
أشكره لأنه مهّد لي الطريق منذ صغري لأعبر المرحلة الآنيّة، وساعدني لأصقل مواهبي في الكتابة والإذاعة والتلفاز وأصبح متقدّمًا.
الله أهداني الكثير لكنه عاد، فأخذ منّي، كأنّه يقول لي: «الآن، حان الوقت لاستعادة ما وهبتك إيّاه!».