أسرة تحرير «قلم غار»
في ختام قداس يوبيل المرضى والعاملين في القطاع الصحّي، أطلّ البابا فرنسيس اليوم على المؤمنين المحتشدين في ساحة القديس بطرس الفاتيكانيّة، قائلًا: «أتمنّى للجميع أحدًا مباركًا، وشكرًا جزيلًا لكم». يُعدّ هذا الظهور العلني الأوّل للحبر الأعظم منذ خروجه من المستشفى يوم الأحد في 23 آذار 2025.
إطلالة مفاجئة
فاجأ البابا فرنسيس اليوم المؤمنين بلقائهم في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان. اجتاز حشد المؤمنين ووصل إلى المذبح، حيث يترأس رئيس الأساقفة سالفاتوري رينو فيزيكيلا القداس.
بعد البركة الختاميّة، توجّه البابا فرنسيس إلى الحجّاج بكلمات بسيطة: «أحد مبارك. شكرًا للجميع!».
ثم عاد فورًا إلى مقرّ إقامته في دار القديسة مارتا.
وكان البابا يتنقّل على كرسي متحرّك ويستخدم قنيةً أنفيّةً لتسهيل التنفّس، كما كان الحال عند خروجه من مستشفى جيميلي الجامعي في 23 آذار الماضي.
وقد عبّر الحجّاج عن فرحهم وحماسهم بالتصفيق والهتاف مرارًا: «يحيا البابا!».
نيل الغفران الكامل
قبل إلقاء التحيّة على المؤمنين وشكرهم في ساحة القديس بطرس الفاتيكانيّة، «نال الأب الأقدس سرّ المصالحة في بازيليك القديس بطرس، وتأمّل في الصلاة، واجتاز الباب المقدّس»، بحسب ما أفادت دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي.
عظة البابا فرنسيس
في عظته التي تلاها فيزيكيلا نيابةً عنه بمناسبة يوبيل المرضى والعاملين في القطاع الصحّي، تأمّل البابا فرنسيس في معنى الألم، مؤكدًا أنّه يشارك المتألمين خبرة المرض.
وجاء في عظة الأب الأقدس ما يأتي:
«”هأنَذا آتي بالجَدِيد، ولقَد نَبَتَ الآنَ أفَلا تَعرِفونَه؟” (أشعيا 43: 19). هذا هو الكلام الذي وجّهه الله، على لسان النبي أشعيا، إلى شعب إسرائيل في المنفى في بابل. كان وقتًا صعبًا لبني إسرائيل، وبدا لهم أنّ كل شيء قد انتهى. فقد تمّ احتلال أورشليم وتدميرها من جنود الملك نبوخذ نصّر الثاني، ولم يبقَ أي شيء للشعب الذي تمّ ترحيله. بدا الأفق مغلقًا، والمستقبل مظلمًا، وتبدّد كل رجاء. كل شيء يدفع المنفيّين إلى الاستسلام بمرارة، وإلى الشعور بأنّ الله خذلهم وزالت عنهم بركته.
ومع ذلك، في السياق نفسه، دعاهم الله إلى أن ينظروا إلى شيءٍ جديدٍ ينمو. ليس شيئًا سيحدث في المستقبل، بل هو حادث منذ الآن، إنّه ينمو مثل برعم جديد. ما هو هذا الشيء؟ ماذا يمكن أن ينمو، بل ماذا يمكن أن يكون قد نما من قبل في بيئة كلّها خراب ويأس مثل هذه؟
الذي كان ينمو هو شعب جديد. شعبٌ، بعدما انهارت أمامه ضمانات الماضي الكاذبة، اكتشف ما هو جوهري وأساسي: الاتحاد والسير معًا في نور الله (راجع أشعيا 2: 5). إنّه شعب سيقدر أن يبني من جديد أورشليم لأنّه تعلَّم، وهو بعيد عن المدينة المقدّسة، وقد دُمِّرَ الهيكل ولم يعد قادرًا على إقامة الاحتفالات الليتورجيّة فيه. تعلَّم أن يلتقي بالله بطريقة أخرى: بتوبة القلب (راجع إرميا 4: 4)، وممارسة العدل والحقّ، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين (راجع إرميا 22: 3)، وأعمال الرحمة.
وهي الرسالة نفسها التي يمكن أن نقرأها أيضًا، بطريقة مختلفة، في نصّ الإنجيل (راجع يوحنا 8: 1-11). هنا أيضًا نجد شخصًا، امرأة، دُمِّرَت حياتها: ليس بسبب المنفى الجغرافي، بل بسبب الإدانة الأخلاقيّة. إنّها امرأة خاطئة، كانت بعيدة عن الشريعة وحُكِمَ عليها بالإقصاء والموت. ويبدو لها أيضًا أنّه لم يبقَ لها أي رجاء. لكن الله لا يتركها. بل، في اللحظة نفسها التي فيها أمسك معذّبوها الحجارة بأيديهم، إذاك دخل يسوع حياتها، ودافع عنها، وأنقذها من عنفهم، ومنحها فرصة لتبدأ حياة جديدة. قال لها: “اذهبي”، “أنت حرّة”، “وقد نلتِ الخلاص” (راجع يوحنا 8: 11).
بهذه القصص المأساويّة والمؤثّرة، تدعونا الليتورجيا اليوم، في مسيرة الزمن الأربعيني، إلى أن نجدّد ثقتنا بالله الذي هو دائمًا قريب منّا ليخلّصنا. لا يوجد منفى، ولا عنف، ولا خطيئة، ولا أي واقع آخر في الحياة يمكن أن يمنعه من أن يكون واقفًا على بابنا يقرع، ومستعدًّا ليدخل بمجرّد أن نسمح له بذلك (راجع رؤيا يوحنا 3: 20). بل، عندما تشتدّ المحن، وإذاك بصورة خاصة، تشتدّ نعمته ومحبتّه وتزداد لينهضنا من جديد.
الإخوة والأخوات، نحن نقرأ هذه النصوص بينما نحتفل بيوبيل المرضى وجميع العاملين في مجال الصحّة، ومن المؤكد أنّ المرض هو أحد أصعب وأقسى المحن في الحياة، حيث نلمس لمس اليد كم نحن ضعفاء. وقد يجعلنا نشعر مثل الشعب في المنفى أو مثل المرأة في الإنجيل: بلا رجاء في المستقبل. لكن الواقع ليس كذلك. حتى في هذه اللحظات، الله لا يتركنا وحدنا، وإن سلَّمنا أنفسنا له، فإنّه يمكننا، وفي الوقت الذي تخور فيه قوانا، أن نختبر عزاء حضوره. هو نفسه الذي صار على مثال البشر، أراد أن يشاركنا ضعفنا في كل شيء (راجع فيلبي 2: 6-8)، وهو يعرف جيّدًا ما معنى الألم (راجع أشعيا 53: 3). لذلك، يمكننا أن نقول له وأن نوكل إليه ألمنا واثقين بأنّنا سنجد لديه الشفقة والقرب والحنان.
وليس هذا فقط. بل إنّ الله، في محبّته الواثقة، يهتمّ لنا لكي نصير بدورنا، بعضنا لبعض، “ملائكة”، رسلًا لحضوره، إلى حدّ أنّه أحيانًا، سواء لمن يتألم أو لمن يعتني به، يمكن أن يتحوّل سرير المريض إلى “مكان مقدس” للخلاص والفداء.
أيها الأطبّاء والممرّضون وأفراد الطاقم الصحّي الأعزّاء، بينما تهتمّون بمرضاكم، ولا سيّما بالأكثر ضعفًا، الربّ يسوع يمنحكم الفرصة لتجدّدوا حياتكم باستمرار، فتغذّوها بالشكر والرحمة والرجاء (راجع مرسوم الدعوة إلى اليوبيل العادي، الرجاء لا يُخَيِّبُ، 11). إنّه يدعوكم إلى أن تنيروها بتواضع واعين أنّ لا شيء ميؤوس منه، وأنّ كل شيء هو عطيّة من الله، ويدعوكم إلى أن تضيئوا الحياة بتلك الإنسانيّة التي تختبرونها عندما تتركون المظاهر، ويبقى ما هو الأهمّ: أعمال المحبّة الصغيرة والكبيرة. اسمحوا أن يدخل حضور المرضى في حياتكم ويكون لكم عطيّة، ليشفي قلوبكم، فينقّيها من كل ما ليس بمحبّة، ويبعث فيها الدفء بنار الشفقة العذبة والمتّقدة.
ومعكم أيضًا، أيّها الإخوة والأخوات المرضى الأعزّاء، أشارككم كثيرًا في هذه اللحظة من حياتي: خبرة المرض، والشعور بالضعف، والاعتماد على الآخرين في أمور كثيرة، والحاجة إلى الدعم والسند. ليس الأمر سهلًا دائمًا، لكنّه مدرسة نتعلّم فيها كل يوم أن نحبّ ونترك غيرنا يحبّنا، بدون أن نطلب أو أن نرفض، وبدون أن نشكو أو أن نيأس، بل شاكرين الله والإخوة على الخير الذي نقبله منهم، ومستسلمين وواثقين لما سيأتي بعد. غرفة المستشفى وسرير المرض يمكن أن تكون أماكن نسمع فيها صوت الله يقول لنا أيضًا: “هأنذا آتي بالجَدِيد، ولقَد نَبَتَ الآنَ أفَلا تَعرِفونَه؟” (أشعيا 43: 19). وهكذا، نجدّد إيماننا ونقوّيه.
البابا بنديكتس السادس عشر الذي ترك لنا شهادة بليغة على الطمأنينة في أثناء مرضه، قال: “مقياس الإنسانيّة يتحدّد جوهريًّا في علاقتها مع الألم”، و”المجتمع الذي لا يستطيع أن يقبل المتألّمين… هو مجتمع قاسٍ ولاإنساني” (رسالة بابويّة عامّة، بالرجاء مخلَّصون، 38). هذا صحيح: مواجهة الألم معًا يجعلنا أكثر إنسانيّة، والمشاركة في الألم مرحلة مهمّة في كل مسيرة نحو القداسة.
أيها الأعزّاء، دعونا لا نبعد الضعفاء عن حياتنا، كما يفعل اليوم للأسف بعض العقليّات المعاصرة أحيانًا، ولا نستبعد الألم من بيئتنا. بل لنجعل الألم والمرض فرصة لكي ننمو معًا، ونزرع الرجاء بقوّة المحبّة التي أفاضها الله أوّلًا في قلوبنا (راجع روما 5: 5)، والتي تبقى إلى الأبد، على الرغم من كل شيء (راجع 1 كورنتس 13: 8-10/ 13)».
صلاة التبشير الملائكي
إلى ذلك، أكد البابا فرنسيس، في صلاة التبشير الملائكي عقب القداس، أنّه يشعر في فترة النقاهة التي يقضيها في دار القديسة مارتا بـ«إصبع الله» ويختبر لطفه وحنانه. ودعا إلى مواصلة الصلاة من أجل السلام في البلدان المتألمة.
وجاء في كلمة الأب الأقدس ما يأتي:
«أيها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
إنجيل هذا الأحد الخامس من الزمن الأربعيني يقدّم لنا حادثة المرأة التي أُخِذَت في زنى (يوحنا 8: 1-11). كان الكتبة والفرّيسيّون يريدون رجمها، لكن يسوع أعاد إلى هذه المرأة الجمال الذي فقدته: هي وقعت حتى الحضيض، ويسوع انحنى يخطُّ بإصبعه في الحضيض قصّة جديدة لها: إنّه “إصبع الله” الذي يخلّص أبناءه (راجع خروج 8: 15) ويحرّرهم من الشرّ (راجع لوقا 11: 20).
أيها الأعزّاء، كما شعرت في أثناء إقامتي في المستشفى، كذلك الآن في فترة النقاهة، أشعر بـ”إصبع الله” وأختبر لطفه وحنانه. في يوم اليوبيل للمرضى والعاملين في مجال الصحّة، أسأل الربّ يسوع أن تَصِلَ لمسة حبّه إلى الذين يتألمون، وأن يشجّع الذين يهتمّون بهم. وأصلّي من أجل الأطبّاء والممرّضين والعاملين في مجال الصحّة الذين لا تُقَدَّمُ لهم المساعدة دائمًا ليعملوا في ظروف مناسبة، وأحيانًا يتعرّضون للاعتداءات. رسالتهم ليست سهلة ويجب تأييدها واحترامها. وأرجو أن تُوَفَّرَ الوسائل اللازمة للعلاج وللبحث العلمي كي تكون الأنظمة الصحّيّة شاملة وتهتمّ بأشدّ الناس فقرًا وضعفًا.
أشكر سجينات سجن النساء في ربيبيا على البطاقة التي أرسلنها إليَّ. أصلّي من أجلهن ومن أجل عائلاتهن.
في اليوم العالمي للرياضة من أجل السلام والتنمية، أتمنّى أن تكون الرياضة علامة على الرجاء للناس الكثيرين الذين يحتاجون إلى السلام والاندماج الاجتماعي، وأشكر الجمعيّات الرياضيّة التي تربّي بصورة عمليّة على الأخوّة.
لنواصل الصلاة من أجل السلام: في أوكرانيا المعذَّبة التي تتعرّض لهجمات تتسبّب في سقوط الضحايا المدنيّين الكثيرين، بينهم عدد كبير من الأطفال. والشيء نفسه يحدث في غزّة، حيث يضطر الناس إلى أن يعيشوا في ظروف لا يمكن تصوُّرها، من دون مأوى، وطعام، ومياه نظيفة. لتصمت الأسلحة وليُستأنف الحوار. وليُطلق سراح جميع الرهائن ولتُقَدَّم المساعدة إلى السكان. ولنُصَلِّ من أجل السلام في كل أنحاء الشرق الأوسط، في السودان وجنوب السودان، وفي جمهوريّة الكونغو الديمقراطيّة، وفي ميانمار التي تأثّرت بشدّة من الزلزال أيضًا، وفي هايتي، حيث يتصاعد العنف، والذي أدّى قبل أيّام قليلة إلى مقتل راهِبَتَيْن أيضًا.
لِتَحرُسْنا سيّدتنا مريم العذراء ولتَشفَعْ لنا».
تجدر الإشارة إلى أنّ دار الصحافة الفاتيكانيّة أعلنت يوم الجمعة الماضي أنّ صحّة البابا فرنسيس تشهد تحسّنًا طفيفًا، وأنّه في حالة معنويّة جيّدة. ولم تفصح عن إمكان مشاركة الحبر الأعظم في احتفالات أسبوع الآلام.
———————————————————-
لمن يرغب في قراءة المزيد من التفاصيل المتعلّقة بالبابا فرنسيس، الرجاء زيارة المواقع الآتية:
فاتيكان نيوز: البوابة الإخباريّة الرسميّة للفاتيكان
فاتيكان فا: الموقع الرسمي للكرسي الرسولي
بوليتينو: النشرة الرسميّة للفاتيكان والكرسي الرسولي